باحث تونسي يرى أن الجماعات التكفيريّة تتناسل بعضها من بعض

عمار بنحمودة: دعاة الإسلام السياسيّ استخدموا الدّين، وضيّقوا من سعة تأويله، وصار رهناً لبرامجهم السلطويّة.
العالم اتّسع لعدد كبير من الأديان والعقائد، وتنوّعت المواقف الفكريّة والأطروحات ذات المرجعيّة الدينيّة، التي ميزت الكائن البشري عن سائر الكائنات الأخرى
التكفير بذلك يبدو متعارضاً مع حريّة الاعتقاد وحق البشر في الاختلاف

أكد الباحث التونسي د.عمار بنحمودة إنّ خطورة الخطاب التكفيري تكمن في كون أصحابه يتشبّثون بقاعدة القداسة التي يَسِمُونَ بها تأويلهم للدين، ويسلبون كلّ من يختلف عنهم شرعيّته الدينيّة، بل شرعيّة الوجود أصلاً، ولذلك هم يشرّعون حرب من يعدّونهم كفّاراً، ويستبيحون دماءهم ومالهم ونساءهم. وإنّ كلّ نقاش مع هذه الجماعات يُعدّ نقاشاً شاقّاً ومضنياً؛ إذ يَعدّون آراءهم نهائيّة وقطعيّة، ولذلك تمنعهم دوغمائية فكرهم من الاعتراف بالخطأ أو قابليّة تغيير مواقفهم. والمأزق أنّ من لا يتبنّى الخطاب التكفيري، الذي تؤمن به هذه الجماعات، يُعدّ في عرفها كافراً. فإمّا أن تصطفّ مع التكفيريين وإمّا أن  تستحقّ لقب كافر في تصوّرهم. لا توجد منطقة وسطى عندهم بين الكفر والإيمان.
وذكر في كتابه "التكفير في خطاب الإسلام السياسي" الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود أن الخطاب التكفيري يبدو في ظاهره خطاباً دينياً تداوله المسلمون زمن صراعهم على لقب الفرقة الناجية وشرعيّة الجماعة الحاكمة. بيد أنّه شهد منذ تلك الفترة التباساً بين ظاهر خطابه الدينيّ وباطنه السياسيّ، بل إنّه صار، على الرغم من قيامه على أسس دينيّة، تهمة يتبرّأ منها كثيرٌ من الفرق، وتُتَّهم بها فرقٌ أخرى فتوسَم بالغلوّ والتطرّف. فالتبست المواقف حوله بين ساعٍ إلى اعتماده سلاحاً لاحتكار الشرعيّتين الدينيّة والسياسيّة، وبين تحويله إلى تهمة تهب الطرف الذي يتبرّأ منه الاعتدال والوسطيّة. 
وبذلك صار مفهوم التكفير محلّ جدل واختلاف، على الرغم من أنّه يقوم على أساس ثنائيّة دينيّة هي الإيمان والكفر. وليست المعضلة في أن نرصد الحالات التي وُسم فيها فرد أو جماعة بالكفر، فكلّ الأديان التوحيديّة قائمة على هذه الثنائيّة، وإنّما في ما يتولّد عن التكفير من أحكام إهدار الدّم وتطليق الزوجة وإفراد الكافر عبر عزله عن المنظومة الاجتماعيّة وتحويله إلى شخص يشرّع ضدّه العنف وتطبّق عليه الحدود.

لا خلاص من محن الجمود والاستعداء سوى الفصل بين الشأن السياسيّ والدينيّ، فإنّ كلّ مزج بينهما يؤدّي دوماً إلى التسلّط والعنف المقدّس وتقسيم البشر على أساس عقديّ

وأشار بنحمودة أن التكفير بذلك يبدو متعارضاً مع حريّة الاعتقاد وحق البشر في الاختلاف، من خلال خضوع منازل الكفر والإيمان إلى التأويل وقابلية المفهوم للصراع التأويليّ ضبطاً لشروط الانتماء إلى صفّ المؤمنين وتحديد سمات الكافرين. ولئن اتّسع العالم لعدد كبير من الأديان والعقائد، وتنوّعت المواقف الفكريّة والأطروحات ذات المرجعيّة الدينيّة، التي ميزت الكائن البشري عن سائر الكائنات الأخرى، فإنّ الخطاب التكفيريّ يظلّ خطاباً سلطويّاً أساسه الاعتقاد بوجه واحد للحقيقة، تضيق دوائره حتّى ينغلق على تأويل محدّد للنصّ القرآنيّ، وتصوّر ثابت لنمط حياة البشر. ولذلك تحوّلت معارك التكفيريّين، في كثير من الأحيان، من محاربة المعتقدين بأديان أو تصورات أخرى غير إسلاميّة إلى محاربة من يشتركون معهم في الانتماء إلى الدين نفسه مع اختلاف في تأويل بعض المسائل الفرعيّة المتّصلة مثلاً بنظام الحكم، أو بمسالك التأويل وآلياته.
طرح بنحمودة من خلال تتبع مسارات الإسلام السياسيّ، أثر الخطاب التكفيريّ في الحياة السياسيّة والفكريّة، وأثره في الواقع. محددا مسارين: الأوّل بمسار التشدّد والعنف، والثاني بمسار الوسطيّة والاعتدال. وقال: هي مجرّد فرضيّات؛ إذ لا نقصد بمسارات التشدّد والعنف حكماً معياريّاً، بل عملنا على رصد "مشروع الدولة الإسلاميّة" باعتبارها التجسيد النهائيّ لما روّجه دعاة الإسلام السياسيّ من آراء نظريّة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الوسطيّة والاعتدال؛ إذ هي  في حقيقة الأمر مجرّد فرضيّة قد يكشف التحليل زيفها وبطلانها من خلال دراسة الجدل القائم بين ما سمّي تطرّفاً وما روّج لكونه وسطيّة واعتدالاً. وفيصل التفرقة في هذا الإطار هو الخطاب التكفيريّ، الذي لا يمكن أن نتصوّره مجرّد خطاب يصرّح بكفر فرد أو جماعة، وإنّما بنية ذهنيّة متشابكة قد تتوارى مسمياتها الأصليّة كالكفر والردّة والإلحاد والزندقة، ولكنّها تظهر بمظهر جديد وبصيغ أخرى تشترك مع التكفير في جوهرها، وتختلف عنه في أسمائها. 
وسعى بنحمودة إلى تقييم تحوّلات الخطاب التكفيريّ في إطار واقع تاريخيّ طرح اختيار المواجهة ضدّ الأنظمة الغربيّة، وبنى مشاريعه على معارضتها، على الرغم من أنّه تأثّر بها في كثير من مقولاته، ثمّ سارع إلى قبولها وتبنّي كثيرا من مقولاتها السياسيّة التي كانت سابقاً توسم بالكفر؛ أي البحث عن الظروف الموضوعيّة التي دعت بعض الجماعات إلى التخلّي عن الخطاب التكفيريّ وتغيير مواقفها الدينيّة والسياسيّة، وأثر الظروف الدوليّة في تحويل بعض تلك الجماعات إلى أحزاب مشاركة في نظام متعدّد الأحزاب. وأخيراً سعى إلى دراسة علاقة الإسلام السياسيّ بالخطاب التكفيريّ في إطار مفاهيم الحريّة وحقوق الإنسان وتحوّل الوعي الإنسانيّ نحو الدفاع عن مقولات الحوار والتفاهم بدل الصراع والتقاتل. وهي مسألة تحتاج منا إلى طرح الخطاب التكفيريّ في إطار ثالوث الحقيقة والسلطة والمقدّس. تلك المفاهيم التي لا نتناولها باعتبارها تصورات ذهنيّة مجرّدة، بل  نقاربها في إطار ارتباطها بأنساق واقعيّة تجعل الخطاب التكفيريّ يتفاعل في كلّ حقبة مع الواقع.
وأوضح بنحمودة أنه لا يمكن أن ننكر فاعليّة القوانين التي جرّمت التكفير في الحدّ منه وردع المخالفين، بيد أنّ تلك الفاعليّة تظلّ حكراً على المؤمنين بالدستور والمعترفين بالقوانين المتولّدة عنه. والحال أنّ دعاة التكفير هم عادة من المارقين عن الدّولة، وممّن لا يعترفون بها وبقوانينها، بل يَعدّونها قوانين كفر وشرائع طواغيت. وهم يواجهون العنف الشرعيّ الذي تحتكره الدولة بعنف غير شرعيّ يكون في شكل اغتيالات وتفجيرات. 
ولئن اصطفّ دعاة الإسلام السياسيّ في خانة الجماعات التكفيريّة التي تدين الآخر لعقيدته، وترى أنّ الشكل الوحيد للدّولة الإسلاميّة هو ذاك الذي تطبّق فيه الشريعة الإلهيّة المقدّسة، وما سوى ذلك أنظمة كفريّة وطاغوتيّة. فيكون التكفير نقيض الديمقراطيّة، ومن الطبيعيّ أن تكون نهاية الإسلام السياسيّ بقبول التعدّد والانخراط في الانتخابات. وهو ما يعني الانتقال من التعامل مع الأحزاب الأخرى باعتبارها كافرة إلى مرحلة الاعتراف بأنها تمتلك جزءاً من الشرعيّة التي تخوّلها تولّي مقاليد السلطة. أمّا التكفيريّون "المارقون عن القانون"، والرافضون للشرعيّة الدستوريّة، فمتشبثون بتصوراتهم وتعاملهم مع الأحزاب الأخرى بمنطق الإقصاء على أساس أنّها جماعات كفر لا يجوز لها أن تحكم؛ لأنّها لا تطبّق حدود الله وشريعته. وليس الانتقال بين الحالتين بيسير؛ ذلك أنّ الانتقال من مفاهيم الحاكميّة والدولة الإسلاميّة وتكفير المخالفين إلى طور الديمقراطيّة وقبول الاختلاف والإيمان بحقوق الإنسان يعني تغييراً لكثير من المسلّمات التي مثّلت في الماضي عُمُد الدعوة الإسلاميّة. 

ورأى بن حمود أن تجربة الحكم أصدق أنباء من النظريّات التي روّجها دعاة الإسلام السياسيّ؛ إذ وجدت الأحزاب، التي بنت شرعيّتها على أساس خطاب يستدعي الدين إلى الشأن السياسيّ، نَفْسَها أمام تحديات داخليّة وخارجيّة. ولذلك لجأت إلى التأويل من أجل الخروج من المآزق التي أوقعتها النظريات فيها. ومن أهمّ تلك المآزق مسألة التكفير. فبناء مملكة إيمانيّة لا صوت فيها يعلو على صوت الدّاعية، ولا حكم فيها إلا للإرادة السماويّة والخلافة الربّانيّة، مسألة أكّد كثير من النقّاد أنّها طوبى صعبة التحقّق على أرض الواقع. وتحقيقها بالصيغة الداعشيّة بيّن إلى أيّ حدّ يمكن للعنف المقدّس أن يسارع بتجربة الإسلام السياسيّ متى تحوّلت إلى مشروع حكم فاشيّ يعتقد أصحابه بأنّهم يطبّقون أحكاماً إلهيّة مقدّسة، وأنّهم يستمدّون شرعيتهم من الكتاب والسنّة. أمّا تحقيقها بصيغة مدنيّة، فينهي كثيراً من الأوهام الدّينيّة ويجعلها تتداعى أمام المنظومة الديمقراطيّة والشروط الموضوعيّة للحرية وحقوق الإنسان. وقد كان التّكفير أوّل صروح الوهم التي هوت بمجرّد مقارعتها الحريّة التي دفعت بها حركات الشعوب العربيّة المنتفضة ضدّ الاستبداد، وجسّدتها الدّساتير الحمّالة لتلك القيم. فحركة الشّعوب في التّاريخ الحديث سائرة نحو استعادة حقوق الإنسان من نواب السماء على الأرض، وحريصة على حقوق البشر أكثر من حرصها على حقوق الإله. وهي تصوغ القوانين استجابة لحاجات الناس المتجدّدة، وليس عملاً بأحكام يظنّ أصحابها أنّها إلهيّة ونهائيّة ومطلقة وغير قابلة للتطوّر. وإنّ التشبّث بقداسة الأحكام، التي يَعدّها أصحابها إلهيّةً، إن هو إلا صيغة سلطويّة لاحتكار الحقيقة وإعدام التعدّد والاختلاف والاستئثار بالسلطة. وهو أمر - وإن حقّق فاعليّته السياسيّة قديماً - ما عاد يستجيب لأفق إنساني توّاق إلى الحريّة ومؤمن بالتعدّد والاختلاف سبيلاً للخلق والإبداع. 
وتابع بنحمودة أن بعض الحركات التي تنتمي إلى العائلة الموسّعة للإسلام السياسيّ، حقّقت تطوّراً لافتاً للانتباه في تخلّيها عن التكفير، ولكنّ الأزمة الهيكليّة التي يعاني منها هذا الفكر تتمثّل في كونه زرع بذور شقاق يصعب اجتثاثها. فكلّما ولّى فريق عن التكفير وأعلن إيمانه بالديمقراطيّة نشأ فريق آخر يكفّره ويكفّر من لا يكفّره. وفي كلّ مرّة تتناسل الجماعات التكفيريّة بعضها من بعض. وإنّ كلّ مارق عن قانونها وشرائعها الإلهيّة موسوم بالعلمانيّة، أو بغيرها من الأنظمة التي تعدّ "طاغوتيّة كفريّة". ويظلّ المأزق الحقيقي في إقناع هذه الجماعات بحقّ الآخر في الاختلاف وحريّة العقيدة. وهو مأزق لا يتعلّق بالخطاب النظري الذي يتبنّاه دعاة الإسلام  السياسي، وإنّما في الواقع الذي يغذّي هذه الحركات، ويقوّي من قاعدتها الجماهيريّة. ولعلّ ترسيخ السّلوك الديمقراطي والإيمان بالحريّة يمكن لهما أن يكونا حلولاً ناجعة تحدُّ من فاعليّة التكفير. وإن شئنا التخصيص فإنّ المجتمعات التي غذّت السياسة فيه الاستبداد والتدخّل الأجنبيّ والطائفيّة والعنف تكون بيئة خصبة لانتشار الفكر التكفيريّ. ويمكن للأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة أن تغذّيه أيضاً. فالأزمات تدفع البشر إلى البحث عن حلول سحريّة ومكاسب رمزيّة. أمّا وضعيّة الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ فهي أيسر السّبل لتحقيق السلم الاجتماعي.  
وأكد بنحمودة أن الدين ليس وحده خزّان العنف، وإنّما يمكن لكثير من الإيديولوجيات أن تبرّره وتقنّنه، وقد مثّل توظيف الخطاب الديني في الشأن السياسيّ اعتماداً على التكفير سلاحاً له القدرة على جمع الأنصار وتبرير العنف باسم الجهاد المقدّس. لكنّه يقف عند عتبات الهدم، ولا يبلغ مراحل البناء؛ فهو آليّة فرقة ومبرّر إبادة وسبيل للقضاء على خصم سياسيّ وهو مفهوم لا يؤسّس سوى لرؤية طائفيّة ضيّقة الحدود. فهو خطاب لا يقبل أصحابه الاختلاف مع الفرق الأخرى، فكيف بسائر الأديان والمنظومات الفكريّة الأخرى كالعلوم الإنسانيّة والفلسفة. ولذلك أينما حلّ التكفيريّون كانت مملكة الإيمان المزعومة إعداماً للمختلفين على جميع الأصعدة: في السياسة والاقتصاد والفكر. 
ومهما حاول دعاة الإسلام السياسيّ إظهار الطابع المثاليّ لمملكتهم، ومنحها ألقاب القداسة عبر وسمها بالإسلام والشريعة، فإنّها تظلّ مملكة  على مقاس أصحابها تطرد منها كلّ مختلف وتعدم كلّ كافر بنواميسها. وإنّه مهما توقّع القائمون على الدّول التي تتبنّى العقيدة التكفيريّة بأنّهم ينشرون السعادة بين البشر، فإنهم يعبّرون عن فهم قاصر لتلك السّعادة، ووهم الاعتقاد بأنّ سبلهم هي الوحيدة التي تقود إليها. وليس أدلّ على ذلك من إصدار دراسة شرعيّة من عشرين صفحة ألّفها أبو البراء النجديّ تحمل عنوان "إسعاد الأخيار في إحياء سنّة نحر الكفّار"؛ فأيّ سعادة يجنيها الإنسان من ذبح أخيه الإنسان؟ وهل أضحى الخطاب الديني ردّة عن السقف الأخلاقيّ الذي قام عليه في ظلّ جموح دعاة الإسلام السياسيّ إلى تبرير العنف بالدين وإقحامه في مشاكل الآدميين بدل عبادة رب العالمين؟  
وانتهي بنحمودة إلى أن دعاة الإسلام السياسيّ استخدموا الدّين، وضيّقوا من سعة تأويله، وصار رهناً لبرامجهم السلطويّة التي حوّلت مشاريعهم السياسيّة إلى مشاريع إلهيّة يحتكر أصحابها المقدّس من أجل تجميد الفكر الديني، وتحويله إلى صيغة صداميّة تستعدي الغرب بدل استثمار تقدّمه. ولا خلاص من محن الجمود والاستعداء سوى الفصل بين الشأن السياسيّ والدينيّ، فإنّ كلّ مزج بينهما يؤدّي دوماً إلى التسلّط والعنف المقدّس وتقسيم البشر على أساس عقديّ.