باحث عراقي يفكك النص الكتابي لأبي يزيد البسطامي
كانت ولا تزال نصوص أبي يزيد البسطامي موضع تحليل وتأويل ودراسة الباحثين والنقاد من مختلف المناهج الفلسفية والمدارس النقدية كالبنيوية والأسلوبية والتفكيكية.. إلخ، في الشرق والغرب على حد سواء، إذ يحتل النص الصوفي عامة مكانة روحية ووجدانية بارزة في مختلف الثقافات وليس الثقافة الإسلامية وحدها. وهذه الدراسة "النص الصوفي.. دراسة تفكيكية في نصوص أبي يزيد البسطامي" للباحث العراقي د.عامر جميل شامي الراشدي تتناول نصوص أبي يزيد البسطامي من جهة وتفكيكية جاك دريدا من جهة أخرى، حيث تنطلق من التعريف بالتفكيكية وتطوراتها لتبدأ بعد ذلك فحص عالم النص الصوفي لأبي يزيد في ضوء التفكيك.
يؤكد الراشدي أن نصوص أبي يزيد تعد معلما مهما من معالم المنظومة الصوفية على مستوى العالم الإسلامي لما لها من خصوصية وفرادة في تجربتها الكتابية التي تؤشر عمقا ونضجا روحيا شكل بدايات كتابة جديدة ونقطة افتراق مع الكتابات الصوفية السابقة والتالية لها، إذ أثث أبو يزيد لتجربة تعيش خارج مجرى الزمن حين تكلم بلسان الحال الممحوق عن نفسه القائم بغيره/ التجليات الإلهية، فرابعة العدوية، وأبو الحسين النوري، والحارث المحاسبي وذو النون المصري، وغيرهم من الذين سبقوا البسطامي لم يتجاوزوا فناء النفس عنها دون ذكرهم لقيامها بغيرها / التجليات الإلهية، فالكثافة الروحية التي اعتملت داخل البسطامي دفعته إلى ترسيم مشهد صوفي ظل يتكرر مع الحلاج والشبلي وعفيف الدين التلمساني وابن سبعين وابن الفارض والسهروردي وغيرهم مما سار على الدرب الذي دشن معالمه بنفسه، فكانت الغيبة عن النفس وذهاب الحس وضياع الحضور وغريب القول، مزايا قارة في تجربة هؤلاء الذي أعقبوا البسطامي، لما شكله من ظاهرة حرفت مسار اتجاه الكتابة الصوفية إلى جهة كانت غائبة عن المشهد الصوفي الإسلامي، ولفتت أرواح المتصوفة إلى معارج حقيقية حتى تحولت اللغة لديه إلى انكشاف للوجود، فاللغة عنده وجود يعاش ويعاين.
ويشير إلى أن الثنائية الجنسية ـ الذكر والأنثى ـ لم تخل منها نصوص أبي يزيد، فهي تمتلك توحدا مع النص الديني دون أن تكون جزءا منه ومع النص الأدبي من جهة أخرى دون أن يكون جزءا منها؛ لأن نصوص أبي يزيد تحاول إعادة قراءة المفاهيم السائدة في النص الديني وخاصة الأخلاق واصلاح القلب "واسترسال النفس مع الله تعالى عما يريد"، كما أنها سعت لتأسيس ذاكرة جديدة في المشهد الأدبي الذي يعتمد تحليله على اللغة المعجمية لتأثيث دلالة الكلمة، فيما تعتمد نصوص أبي يزيد على ذاكرة المعجم الصوفي الذي يتبع أصول الكلمة ودلالاتها حسب ذائقيها، ما يجعله نصا مفارقا لانتمائه باستمرار غير منتسب سوى لنفسه بالرغم من أنه ينكر كونه يمتلك وجودا قارا، فوجود الكتابة الصوفية ليس من أجل إثبات وجودها؛ بل من أجل نفيها، فدلالة تحقق أعيانها يقوم أصلا على نفي دلالاتها؛ لأن إثباتها يعني فشل التجربة الصوفية، وعلى قدر تمثل هذه التجربة من النفس تنكتب وتظهر إلى حيز الوجود.
ويرى الراشدي أن النص الكتابي لأبي يزيد يتأسس على كهانة مفترضة تتنبأ بالوجود المعيش للنص بعيدا عن الواقع الميتافيزيقي وسلطة حضوره، ولكنها كهانة ضرورية لخلق التواصل مع كتابة قارة على سطح ينطوي على استثارة كامنة تنبعث ما إن يتم اللقاء به وهي تحمل دهشة غرابتها وقوة اضطرابها الناجم عن "جنون مزدوج ـ ينفي / ويبقى" ففي اللحظة التي ينتفي معها وجود الذات تبقى حاضرة بغيرها.
ويقول الراشدي "لو قيض لجاك دريدا أن يطلع على نصوص أبي يزيد وعلى مجمل المشهد الصوفي برمته، لأدرك أن علم الكتابة ومركزية الصوت يشكلان حضورا متناوبا في هذه النصوص، إذ إن الحضور الذي كان يشكله الصوت بالنسبة لمدلوله وللآخر لم يغب تماما عندما تمت مصادرة ملكيته/ الحضور، وإعطاء هذه الثروة بالكتابة / الغياب، كما إن الكتابة لم تشكل استحواذا قارا ومتمكنا من حيازة الصوت، فكتابة صوت (أبو يزيد البسطامي) في وحدة كتابية لم تطو فيه امتياز وحدته الصوتية، وإن كانت لحظات هذا الامتياز لا تدون وتتلاشي في صدى عابر، إلا أنه صدى مطوي حضوره في كتابته، فإذا ما صادف انفعالا قرائيا قادرا على تزمين المكتوب لحظة نطقه، أمكنه ذلك من كشف الصوت المطوي فيه "من لم يقف إشارتنا لم ترشده عبارتنا"، لأن العبارة لا تدل على المعنى إذا ما تم الوقوف عندها واستنباط المقصد منها بالتحرر "من ثبات الكتابة ونواة تقرير المعنى داخل النص من خلال تحويل حقل استقباله من فهم موح إلى كشف ينفلت من تركيبة العبارة حيث يتم الاستقبال اللانهائي بالمجاهدة بما هي إماتة للنفس وانخراط في تجربة المطلق" وتحين الكتابة إلى لحظة إدراك السر وسماع الخاطر، فنصوص أبي يزيد الكتابية مدونة صوت ـ كتابية، ويتم استنهاض الصوت بإحالة المكتوب إلى لحظة تجليه بعد التخلي عن المكتوب، والتحلي بالملفوظ فما أن يتمسك القارئ بالنص / المكتوبة ويعاينه حتى يستغرق بما يحيله إليه، على إن الأفق لهذه التججليات والتحليات محدود بالمكتوب، لتنقلب الصورة من تخلي المكتوب وتخلي المكتوب وتحلي الملفوظ، إلى التحلي بالمكتوب والتخلي عن الملفوظ في أفق قرائي غير متمكن لأحد الطرفين، وهنا تتفكك العلاقة الأفلاطونية والدريدية، وهي تتقرى نصوص أبي يزيد، فلا هيمنة للصوت بإرثة الأفلاطوني ولا للكتابة بدعواها الدريدية، فالنص في تناوب مستمر ما بين التمركز حول الكتابة وتحليه بهذه الصفة، والسعي عنها لصالح التمركز حول الصوت.
ويلفت إلى أن الأثر الصوفي يمتلك وعيا يتقدم على الأثر التفكيكي، لا بل إن ما سعى إليه جاك دريدا من تفكيك للميتافيزيقيا بما تمتلكه من تراتبية عنيفة أقامتها داخل الفكر هو المسعى نفسه الذي سعى إليه الصوفي فيما يخص نص ـ قارئ إذ أصبحت التراتبية الجديدة، قارئ ـ نص. وهو ما يبرر قلة الدراسات التي تناولت "الشطح الصوفي" إذ أن الذاكرة الإسلامية تتوافر على نصوص لا بأس بها من حيث الكم، فيما نرى قصورا واضحا في التعامل معها من قبل النقاد والدارسين المسلمين، فقلب التراتبية يعني امتلاك وعي ينظر إلى الإبرة ويفكر بها دون التفكير بالألم الذي أحدثته، وعي يتعالى على المدونة الثابتة المقدسة، لا لأجل أن يتجاوزها أو ينتقص منها بقد ما يرجئ تأثيرها وسلطتها ليخدمها، ولكن بطريقة الكشف عن مناطق مضللة ومظللة فيها يعي "الشريعة" السالك فيها خطورتها وحدة طريقها مع وعيه بما تحويه من قيمة ذوقية وجمالية روحية تدفع متذوقها إلى تكرار المحاولة دون النظر إلى عواقب الزلل، فهي لا تكشف عن هذه المناطق إلا من أهلته روحه وارتفع به حاله وهو ما حدد قلة وندرة طالبيها.
ويؤكد الراشدي في تناوله للشطح عند أبي يزيد أن أبا يزيد ظاهرة في التصوف الإسلامي وعلامة فيما قبله وبعده، فالخط البياني لعلاقة الصوفية بالخالق شهدت على يديه توترا سجل انقلابا معرفيا لم تعهده المنظومة الصوفية، فما عاد التصوف بعده كما كان قبله:
"الجنة هي الحجاب الأكبر؛ لأن أهل الجنة سكنوا إلى الجنة، وكل من سكن إلى الجنة سكن إلى سواه، فهو محجوب".. "غبت عن الله ثلاثين سنة، وكانت غيبتي عنه ذكري إياه، فلما خنست عنه وجدته في كل حال حتى كأنه أنا".. كنت لي المرآة، فصرت أنا المرآة".. وعزتك أنك تعلم أنني ما عبدتك لهذا، فلا تحجبني عنك".. غيب معروف وشهود مفقود وأنا في الغيب محضور، وفي الشهود موجود".. تسلك عباراته سلوكا مزدوجا بين عبارة تتركب من حروف متداولة تمتلك أبعادا دلالية معهودة، وبين اصطفافات سياقية تدفع تراكيب هذه العبارات إلى حالة من الشيزوفرينيا بين دلالاتها وسياقاتها، فلا ماض معجمي أو اصطلاحي للكلمة يملأ فجوة السياق؛ لأنها تعيش في حاضر دائم الحدوث والصيرورة دون ذاكرة مسترجعة توضح معضلة العبارة وإشكالاتها.
ويرى الراشدي إن تجربة أبي يزيد سعت إلى نقل اللغة من وظيفتها التواصلية إلى حقيقة تطابقها مع وجودها، فهي وجود يسكن لغته ويؤثث عالمه الذي يعيشه، فكانت لغته المستغربة نتيجة طبيعية لعالم منطو على ذاته، منفتح الدلالة على غيره في كوانتيمية متداعية نستطيع أن نعين هيئة العبارة لكن دون أن نقدر على تحديد محمولها المعرفي التي تزخر به، فلا وجود لتنبؤات معلومة المقدار/ المدلولات نستطيع أن نتكئ عليها لرسم اتجاه محمول الدوال التي يبقى مجهولها قابعا في كل استبيان معرفي يهدد المركز في أن يتوطن بمدلول حتمي نهائي، غياب يعطس ظلا مموها ينكشف في كل مرة بصورة مغايرة لصورة ظله السابقة، وفتح الباب أمام الذين تلوه، كل منهم يقرأ صورته المنعكسة عن "أبي يزيد" فيه من خلال ما سمع وقرأ عنه، إذ إن بعضهم نفذ إلى حقيقة تجربته وحاول تجاوزها بعد أن عجزت روحه عن حمل وطأة تجليات ما رأى في معراضه الصوفي "كالحلاج"، ومنهم من ظل مترددا بين ما عرف عن تجربته وبين ما يرى، فقصرت عبارته عن الاتيان برؤيا تُشكِل على مدلولها "كأبي حمزة الصوفي"، ليبقى "أبو يزيد" صاحب تجربة أصبحت ظاهرة تتكرر بطرق مختلفة، حسب درجة حال الصوفي وشدة معرفته بنفسه.
ومن بين ما خلص إليه الراشدي من نتائج في دراسته التي حاول فيها تفكيك منظومة معرفية قائمة على الاستبطان والمشاهد في تأثيث محمولها المعرفي:
ـ فحص النص الصوفي في ضوء التفكيك ليس محاولة لقلب ثنائية نص ديني/ نص صوفي، إلى نص صوفي / نص ديني، لأننا لا ننقر بوجود هذه الثانئية، فالنص الصوفي نص مصاحب للنص الديني يظهر بعد وجود أي دين، كالنص الصوفي اليهودي والمسيحي مثلا.
ـ الخيال الصوفي طاقة وقوة ذات بعد حقيقي وواقعي تسعى إلى التحقق في الحس بشكل دائم وأبدي بانتمائه إلى عالم له مقاييس وحقائق خاصة به، فيما الخيال الأدبي هو قوة مستودعة داخل الإنسان لها القدرة على تصور معان ليس لها في عالم المحسوسات من وجود.
ـ إن الأثر الصوفي تجاوز الأثر التفكيكي، فالأثر التفكيكي يقع في الفكر، فيما الفكر والروح يتداعيان سوية للوصول إلى الأثر الصوفي.
ـ إن السلوك المزدوج للضوء هو نفسه السلوك الذي يتسم به التصوف، فلغته لغة إذهان وليس لغة أعيان، مما يعني أنها تسلك سلوكا مزدوجا، في عالم صوفي متغير ساكن، فيما حروف هذه اللغة قائمة في العيان الحسي "ثابتة"، وهو المسعى نفسه الذي يسعى إليه التفكيك بمفاهيمه(فالتكرارية والفارماكون والانتشار والأثر الأصلي) مفاهيم تسعى إلى كشف أحد طيات النص مع سعيها المستمر إلى تجاوزها.
ـ إن تجربة أبي يزيد البسطامي تمتلك عمقا روحيا صاحب نظرية الفناء في التصوف الإسلامي، تلك النظرية التي تمحى فيها رسوم عالم الشهادة وتقوم نيابة عنها عالم الملكوت، فكلما ارتفعت صفة بشرية حلت محلها صفة علوية.
ـ النص الصوفي ليس جاهزا للقراءة في كل حين كما هو حال النصوص الأدبية، إذ يشترط استعداد روحيا مسبقا، فمن خفتت روحه تفلتت منه المعاني وظل حبيس أوهامه.