باحث فنلندي يكشف عن أسباب الهجرة والأحلام في ضواحي الخليج

صامولي شيلكه: ما الذي يفعله كون الإنسان عاملًا مهاجرًا بأحلامه؟
شيلكه يقدم قراءات تحليلية لحياة عمال مصريين بين قطر ومصر
ديناميات الجدل الكامنة في الحلم الضاغط الخاص بالتنقل والتقدم وتجربة الحياة في المهجر
يعرف مديرو الشركة بأن هناك باحثا أنثروبولوجيا يعمل مع الحراس

ما يحاول الباحث الفنلندي صامولي شيلكه تتبعه في كتابه "حتى ينتهي النفط.. الهجرة والأحلام في ضواحي الخليج" هو ديناميات الجدل الكامنة في الحلم الضاغط الخاص بالتنقل والتقدم وتجربة الحياة في المهجر، التي لا يشعر بها المهاجر حياة حقًا، وكذلك اضطراب "الإحساس بالزمن" الرابض في مستقبل "متأخر" دائمًا، تنتجه ديناميات الجدل هذه في ظل توفر شروط نظام العمل القمعي، حيث يقدم قراءات تحليلية لحياة عمال مصريين بين قطر ومصر بشكل خاص، محاولا الإجابة عن السؤال التالي: ما الذي يفعله كون الإنسان عاملًا مهاجرًا بأحلامه؟.
يقول صامولي الحاصل على درجة الدكتوراه في الأنثربولوجيا من جامعة امستردام "كان بحثي الميداني في الدوحة قصيرًا، وقد أمضيت المدة كاملة تقريبًا بين العمال في شركة أمن. لم يكن لي أي اتصال من أي نوع بقطريين، واتصال محدود جدًا مع الأشخاص المنتمين إلى طبقة العمال المهاجرين من أصحاب الرواتب الجيدة، بصفتي صديق وضيف على اثنين من العمال، وبمعرفتي بالعامية المصرية، سرعان ما رحب بي العمال المصريون في الشركة. 
وبعد ذلك بقليل تعرفت على بعض العمال الآخرين من نيبال، الذين يتقنون الإنجليزية بفضل خبرتهم السابقة بالعمل في قطاع السياحة في نيبال. العمال "حراس ومشرفون تدرجوا في الوظيفة منذ كانوا حراسًا" كانوا غير راضين بالمرة عن ظروفهم المعيشية وقوانين العمل ورواتبهم والشركة التي يعملون لصالحها. كانوا حريصين كل الحرص على الحديث عن تجربتهم معي. في مناسبات عدة أعربوا عن أملهم في مساهمتي في أن يعرف العالم بالظروف الصعبة التي يعيشون فيها. 
تمكنت من التحرك بحرية وبسهولة بين مختلف مساكن الشركة والبنوك ومواقع عمل أخرى "حجرات الكنترول فقط والمواقع ذات الحراسة الأمنية المشددة هي التي لم أتمكن من دخولها"، وطالما أنني في صحبة الحراس يمكنني استخدام وسائل مواصلات الشركة. على قدر علمي، لم يعرف مديرو الشركة بأن هناك باحثا أنثروبولوجيا يعمل مع الحراس.
ويضيف في كتابه الصادر عن دار صفصافة "في عام 2007 ثم 2008 على التوالي، ذهب عمرو وتوفيق – وهما صديقان من قرية نزلة الريس في مصر – إلى قطر للعمل حراس أمن بعقد لمدة عامين. كلاهما من عائلة ريفية فقيرة نسبيًا. تخرجا في التعليم العالي ولديهما طموحات عالية، لكن مواردهما لا تكفي إلا لشغل وظائف قطاع عام متدنية الأجور في مصر. وتصادف أنهما من المحبين للأدب والكتابة: توفيق يكتب الشعر، وعمرو يكتب القصة القصيرة. كان توفيق يبلغ من العمر 23 عامًا عندما سافر إلى قطر. كان يحلم بالهجرة منذ فترة. كان بحاجة للفلوس، وأيضًا يتوق ليرى العالم وأن يصبح رجلاً حرًا. كان يريد أصلاً إما الذهاب للولايات المتحدة أو لغرب أوروبا، لكن مسار هذه البلدان لم يكن متاحًا له (وأحجم عن المخاطرة بعبور البحر المتوسط في قارب صيد)، لذا استقر به المقام على عقد في الدوحة في قطر، على أمل أن تكون خطوة على الطريق إلى آفاق أبعد، وربما إلى أوروبا أو أميركا. 
العمل كحارس أمن كان مصادفة بحتة: صديقه عمرو أكبر منه ببضع سنوات، وكان بحاجة لادخار الفلوس لزواجه، وقد جاءه عقد عمل كحارس أمن قبل شهور، فتبعه توفيق. يعتبر الهجرة في قريتهما ومثلها في قرى كثيرة من أهم وسائل كسب المال، وقد هاجر قبلهما أجيال من شباب القرية إلى العراق والسعودية وأوروبا، ولكن خطة الخليج تعتبر الأكثر احتمالاً عند شباب القرية لتحقيق الثروة السريعة.
ويشير صامولي إلى أن المهاجرين المصريين الشبان الذين تحدث إليهم اتفقوا جميعًا على أنه بمجرد وجود حلم وبمجرد ملاحقته يمكنهم تحمل محنتهم الحالية. الحلم من هذا المنطلق هو موقع تتواجد فيه التحققات المحتملة (الإمكانيات)، وتكمن بالأساس في المستقبل وبشكل ثانوي في الترتيب المختلف للواقع. لكن ثمة اختلاف إذا تم الإقرار بالحلم ممكن التحقق، أو رؤي بصفته لن يتحقق أبدًا، أو إذا نُظر إليه بصفته لن يتحقق بعد لكن يجب أن يتحقق، وكلما تحقق أسرع كان أفضل. 
هذا التعدد في دلالات كلمة الحلم هو في رأيي مدخل جيد للتفكير في التباس "الخيال كممارسة اجتماعية"، وهي التيمة التي تطورت متحولة إلى أرض خصبة للتفكير في التوقعات والتجربة وتبعات الهجرة، في الأنثروبولوجيا على حالتها الراهنة.
يشكل بحث صامولي لحظتين من الالتباس والمفارقة: أولاهما ديمومة الحركة الدائرية المؤقتة بطبعها للعمال إلى الخليج ومنه، وأُخراهما كيف تمكّن الهجرة من تحقيق الأشياء وفي الوقت نفسه تضع الضغوط وتجلب الصراعات. ويضيف "بدلاً من النظر إلى قطر أو مصر فقط، أحاول التفكير في العلاقة بين الاثنين في عالم تحولت فيه القرى في شتى أنحاء العالم إلى ضواحٍ للخليج. وكذلك، من حيث التحليل، أحاول المزج بين المتضادات الظاهرة، وأكرس لمقاربة لا تعتمد المقارنة الثنائية، حيث الفلوس والأخلاق، وحيث الخيال والمادية، ليست أقطابًا متضادة، وإنما عوالم متوازية، تتواجد على نفس مستوى الواقع. العمل من أجل الفلوس في الخليج ظرف أخلاقي وروحاني، والخيال مورد نادر".

الهجرة إلى الخليج هي حركة دائرية عاجلاً أو آجلاً تشتمل على عودة، ما يؤدي إلى مفارقة الحضور الدائم لتعداد كبير من المهاجرين، على مدار أجيال، مع تواجد دائم قليل لأفراد أو عائلات ممتدة عبر الأجيال من المهاجرين في الخليج

ويرى صامولي أن بحثه هو عن مصر، بقدر ما هو عن قطر (أو الخليج بشكل عام). ويقول "في واقع الأمر، بدأت فيه كمحاولة لفهم مصر. البحث الأنثروبولوجي لفهم مختلف الآمال والإحباطات في منطقة شمال مصر الريفية، أدركت معه أنه ليس من الممكن فهم مصر بشكل منفصل عن فهم الأماكن التي يهاجر المصريون إليها للعمل. حركة الهجرة هذه ليست جديدة على مصر الريفية. على النقيض من الصورة السياحية التي طال تكرارها للقرية المصرية بصفتها مكان قديم متجذر لم يتغير منذ قرون أو آلاف السنين، فإن القرية المصرية متصلة للغاية برأس المال العالمي منذ القرن التاسع عشر. 
كانت الدولة الحديثة في القرن التاسع عشر بحاجة إلى سكان القرى بصفتهم أيديَ عاملة لمشروعات البناء الكبرى وكجنود. نظام المزروعات شاسعة المساحات (العزب) الذي هيمن على الزراعة المصرية حتى الستينيات من القرن العشرين، كان يعتمد على التدفق الدائم لعمال التراحيل الموسميين، وفي الوقت الحالي أيضًا فإن قطاعات عديدة – لا سيما السياحة – تعتمد على التدفقات الموسمية للعمال، الذين يجيئون ويذهبون لكن لا يستقرون. في الوقت نفسه، فإن ملايين الناس انتقلوا من الريف إلى الحضر، وهي الحركة التي بدأت في مطلع القرن العشرين. وقد بدأت هجرة العمال الدولية من مصر في مطلع السبعينيات في سياق القضاء على القيود المفروضة على السفر والعملة وانفتاح الاقتصاد. رغم أن الهجرة الدولية إلى الخليج وأوروبا وأميركا الشمالية كانت بسبل عدة استمرارًا لأنماط الهجرة السابقة، فقد اشتملت على اختلافات نوعية. 
يمكن للمهاجر الدولي أن يربح نقودًا أكثر بكثير من التي كانت متوفرة لفقراء القرية من قبل، وقد حوّلت هذه الفلوس من طابع مصر الريفية وحسنت كثيرًا من ظروف الحياة في الريف، وقلصت من التناقض بين المدن والقرى، ومنحت الشباب ـ عدد أقل بكثير من السيدات المصريات يهاجر دوليًا، وإن كانت أعداد المهاجرات في زيادة ـ إطلالة جديدة على الحياة والعالم. لكنها خلقت أيضًا ضغوطًا جديدة، وأوجه لعدم المساواة، وصراعات. 
ويشير صامولي إلى أنه عند تنحية ما هو مالي وقانوني وسياسي عن بؤرة التركيز لصالح النظر أكثر إلى ما هو وجودي وتخيلي وطموحي، يترصدنا أيضًا خطر تنحية بعض القضايا المركزية من وجهة نظر المهاجرين أنفسهم، عن بؤرة التركيز. الأهم بين هذه القضايا هي الفلوس. ما جدوى التصميم على الاعتبارات الوجودية والممارسة الاجتماعية للخيال بينما المهاجرون أنفسهم يصرون في أحيان كثيرة على أن الفلوس هي أهم ما في وضعهم الحالي؟ 
كيف نتحدث عن الهجرة كمسعى وجودي – والعديد من المهاجرين الذين قابلتهم يصرون أيضًا على أن هذا صحيح – ونعتبر في نفس الوقت مركزية الفلوس في هذا المسعى؟ إن دول الخليج العربي تتمتع بموقع متميز فيما يخص السعي وراء هذا السؤال. فهي قائمة على أكتاف العمال المهاجرين، وهي قوية في تكوين وهندسة العوالم الاجتماعية والتخيلات للأماكن التي ينحدر منها الشخص المهاجر إلى الخليج. 
تظهر البحوث الحالية عن الهجرة إلى الخليج حساسية ملحوظة لحيوات ودروب وشبكات المهاجرين إلى دول الخليج وداخلها، واستغلال العمال المهاجرين في الاقتصاد السياسي لدول النفط، ودور المهاجرين في مدن الخليج ومجتمعاته، وتكوين وإعادة تكوين معاش الأفراد في الأماكن التي ينحدر منها العمال المهاجرين. ويرى أن البحوث الحالية حول الهجرة طورت أيضًا أسئلة مهمة حول الحياة المُعاشة في الشتات والمواطنة غير الرسمية في تناقضها مع اختزال المهاجرين إلى دورهم كمحض قوة عمل، وأعتقد أنه بالنسبة لأغلب العمال متدني الدخل على الأقل (وهذا الكتاب عنهم) يبقى العمل فئة ذات صلة قوية بالموضوع. 
لكن بدلاً من التفكير في المهاجرين ككتلة من العمالة المستغلة، أحاول تقديم حكاية للتجربة الشخصية كونها جزءا من قوة العمل المهاجرة في الخليج. من ثم يحدوني الأمل أيضًا بأن أسهم في فهم تاريخ وحاضر العمال في الوطن العربي عبر حدود الدول الأمم. لكن أن تنظر إلى الخليج دون النظر إلى الأماكن التي ينحدر منها المهاجرون (والتي يعودون إليها في نهاية المطاف) فأنت إذن تنظر إلى نصف عملية الهجرة فقط. هذا بالطبع هو ما يحدث بالنسبة لكل المهاجرين، لكنه يظهر بشكل بارز في الخليج عن أي مكان آخر لأن نظام العمل في دول الخليج يفرض منطقًا دائريًا مؤقتًا على الهجرة. مع استثناءات قليلة، فلا يمكن للعمال المهاجرين الاستقرار في دول الخليج بشكل نهائي. من ثم، فإن الهجرة إلى الخليج هي حركة دائرية عاجلاً أو آجلاً تشتمل على عودة، ما يؤدي إلى مفارقة الحضور الدائم لتعداد كبير من المهاجرين، على مدار أجيال، مع تواجد دائم قليل لأفراد أو عائلات ممتدة عبر الأجيال من المهاجرين في الخليج.