باسل فرحان يسلط الضوء على فلسفة النقد العلمي في 'كارل بوبر والمنعطف الإبستمولوجي'

الباحث باسل فرحان صالح يرى ان فلسفة كارل بوبر استندت إلى نظرية أينشتاين في النسبية العامة والخاصة لتقوم أولا على البحث في المنطلقات والبديهيات وتشريحها بالمبضع النقدي واعتبرت منهج العلم 'منهج التخمينات الجريئة والمحاولات الفذة لإثبات بطلان هذه التخمينات'.

كارل بوبر من كبار فلاسفة القرن العشرين، ومن المؤثرين الرئيسيين في فلسفة القرن الحادي والعشرين، ذلك لأن فلسفته أتت نتيجة لتأثره بعدة تيارات فلسفية وعلمية سمح لها بأن تشكل منعطفا أساسيا على المستوى الإبستمولوجي. استوعب بوبر اتجاهات العصر العلمية والفلسفية، ابتداء من استخدام آلات تكنولوجية فائقة التطور لرصد المتغيرات والمؤثرات البسيطة والدقيقة، والتراكمات الفلسفية النقدية، وليستنتج من ذلك عدم قابلية أية نظرية للثبات على أسس نهائية.

الباحث د.باسل فرحان صالح في كتابه "كارل بوبر والمنعطف الإبستمولوجي" الصادر عن المجلس القومي للترجمة بمصر تتبع فلسفة كارل بوبر قال إن التطورات العلمية بدأت مع العالم شارلز داروين واكتشافه للنزعة التطورية في حياة الكائنات، والتي وصلت إلى الإنسان بشكله الحالي بعد تطور وعيه عن سائر المخلوقات الحية. وأدى اكتشاف العالم أرنست ماندل أيضا إلى تطور مبحث جديد من مباحث البيولوجيا، وهو علم الوراثة، ووصوله في زماننا إلى الاكتشافات الثورية المذهلة على صعيد الجينوم "الشجرة الجينية" التي تحمل الخصائص الوراثية للإنسان من بدايات الحياة إلى يومنا هذا، وما ستقوم به هذه الخصائص من تأثير على حياة الإنسان المعاصر والإنسان المستقبلي.

وأضاف "لا ننسى بالطبع أثر العالم الفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين، ومدى أهمية نظريته النسبية التي وضعت حدا لسيطرة براديغم الفيزياء النيوتونية بعد استمرارها حوالى مائتى عام؛ حيث وصلت الفيزياء الكلاسيكية إلى مكان لا تستطيع معه تحديد ودراسة كل الظواهر الطبيعية، والاكتشافات العلمية، وأخذها تحت جناحها؛ فأدت النسبية إلى اكتشاف بعد جديد يؤثر كثيرا في حياة الإنسان، وهو الزمان، مع الأخذ بعين الأعتبار جميع الفلاسفة والعلماء الذين بحثوا في طبيعة الزمان والضوء، والذين استفاد منهم أينشتاين. أدى هذا الاكتشاف إلى عادة خلط الأوراق والنظريات العلمية، وإعادة البحث فيها على أساس الأبعاد الأربعة التي يحيا الإنسان تبعا لهما، وهيثلاثة ضمن الفيزياء الكلاسيكية "العرض، والطول، والارتفاع"، والبعد الرابع الذي اكتشفه وهو الزمان؛ فقد اختلف شكل الكون ككل تبعا للحساب الدقيق للزمان، واختلف معه بالضرورة أفق الإنسان وكينونته، ما أعطى التفكير حقلا وبعدا جديدين تفجرا مجددا بعد اكتشافات الفيزياء الكوانتية وعلاقة اللايقين المنبثقة عنها.

ورأى فرحان أنه بناء على هذه الاكتشافات قامت فلسفة كارل بوبر النقدية العلمية التي استندت إلى نظرية أينشتاين النسبية العامة والخاصة، والتي لم تبق لأية نظرية ثباتها. ففلسفة بوبر قامت أولا على البحث في المنطلقات والبديهيات العلمية وتشريحها بالمبضع النقدي العلمي الذي لم يتخل عنه، وهو أنه تمسك وشدد على النقد لاعتباره أن النقد يقوم بتفنيد النظريات العلمية والكشف عن الأخطاء والثغرات التي تعتريها، ويتضح هذا في تعريفه لمنهج المعرفة العلمية؛ حيث يقول "إن منهج العلم هو منهج التخمينات الجريئة والمحاولات الفذة لإثبات بطلان هذه التخمينات". كل هذا بهدف بناء نظرية علمية تكون أقرب إلى الحقيقة التي نحاول اكتشافها بالنظريات التي تخضع لـ"المضمون الاختباري"، أي مدى عمق المعلومات التي تقدمها عن الظاهرات الطبيعية، وتخضع أيضا لـ "القانون المنطقي"؛ أي مدى ترابط قوانينها المنطقية، والتي لا تزيد معرفتنا بالشئ أو بالظاهرة.

ولفت إلى إن ما تقدم يبين مدى صرامة ودقة التفكير العلمي النقدي عند بوبر، ولكن المعرفة بالنظريات العلمية، وكيفية تطويرها لتحيط العلم بعدد كبير من الظاهرات الطبيعية، تقوم على معيار الإبطال أو الدحض كما يقول بوبر؛ فهل تنجو فلسفته من هذا الإبطال؟.

وأجاب فرحان أن الفلسفة ضمت من قبل بوبر مختلف حقول العلم المتوفرة آنذاك "الفيزياء إلى الطب.. إلخ" في طياتها، وذلك من أجل الوصول إلى الحقيقة "هدف الفلسفة الدائم". أما لاحقا، فقد انفصلت العديد من العلوم عن الفلسفة، وأضحت علوما قائمة بذاتها لها حقولها الدراسية الخاصة، ومناهجها المختلفة، كنتيجة لعصري التنوير والحداثة التي مرت بهما أوروبا بشكل خاص، والتي كان من نتائجها قيام الفلسفة التجريبية التي حاولت التملص من سيطرة الكنيسة والمعتقدات الغيبية التي كانت سائدة، والتي عاقت تطور وحدة رؤية الفلاسفة العلماء، ما أدى إلى التمرد على السلطة الدجمائية الغيبية التي لا تجاري الحقيقة الحسية التجريبية.

وأكد أن كارل بوبر هو نتاج لهذه التيارات الفلسفية والعلمية المتمازجة حينا والمتناقضة أحيانا، فانكب من جراء ذلك على دراسة الفلسفة والتفكير بتلك النظريات بنهم. وككل الفلاسفة، أبقى بوبر على النظريات التي رآها أقرب إلى الحقيقة الطبيعية، ورفض النظريات التي لا تقترب منها، وذلك بعد أن قام بالبحث والتمحيص قبل إقرار مدى صدقها أو كذبها.

وأوضح فرحان أن كارل بوبر تأثر كما العديد من فلاسفة القرن العشرين، بالإضافة إلى الفلاسفة والعلماء الذين ذكرناهم، بايمانويل كنط، وببرتراند راسل، و بكارل ماركس في رؤيته وتحليله النقدي الذي لعب دورا بارزا في تشكيل رؤيته النقدية سواء على المستوى العلمي أم على المستوى السياسي والاجتماعي. فقد انتسب بوبر إلى الحزب الديمقراطي الاشتراكي، ولكنه سرعان ما اكتشف لا علمية الماركسية فقط، إنما كل الفلسفات التاريخانية بداية من أفلاطون، مرورا بهيغل، وذلك على عكس ادعاءات تلك تلك المذاهب، وذلك في تصديره لكتاب بؤس التاريخانية؛ حيث اعتبر أننا لا نستطيع الوثوق بنتائج الاستقراء، فما حدث في الماضي لن يحدث بالضرورة في المستقبل بنفس الطريقة؛ إذ لا يمكننا التنبؤ بمجرى التاريخ الإنساني بالطرق العلمية. وبوبر يطبق هذه القراءة على جميع الموضوعات التي بحث فيها، ذلك لأن التاريخ يتأثر في سيره بنمو المعرفة الإنسانية التي لا يمكن التنبؤ بها، ما يوصلنا إلى عدم إمكانية وضع قواعد للعلوم الاجتماعية تناظر قواعد العلوم الطبيعية.

وأشار إلى أن كارل بوبر قام بإضافة الكثير إلى المناهج العلمية، بداية من تصويب ما وجد فيها من خلل. وساهم، حسب زعمه، في بناء منهج يفتح الأفق أمام العلم؛ حيث توصل في كتاباته إلى عدم التمكن من الوصول إلى نتائج نهائية في النظريات العلمية، حاول الوضعيون المنطقيون إقراره. فما كان منه إلا أن حطم الأطر المحددة ـ له كتاب اسمه " أسطورة الإطار/في دفاع عن العلم والعقلانية " – وهو آخر ما كتبه وفيه يهاجم كل الأطر العلمية والثقافية والفكرية والسياسية المغلقة، ويقوم بنقدها نقدا صارما لا هوادة فيه؛ فهو من دعاة المجتمع المفتوح وكل الأطر المعرفية الحرة وعلى الرغم من أهمية قراءة بوبر السياسية، ونقده للتاريخانية، فإن هذا البحث يتضمنها، ولن يشتمل على فكر بوبر الليبرالي، ولا مواقفه من التاريخانية، بل سيتناول رؤيته للعلم حصرا.

وسعى فرحان في كتابه إلى محاولة إدراك آليات التحليل النقدي العلمي عند كارل بوبر، محاولا بذلك توسيع دائرة النقد البوبري إلى فلسفته، تلك القراءة التي تسعى إلى تطوير الإتجاه الفكري وعدم حصر هذا التطوير بالعلم.وقال "إن المشكلة التي طرحها بوبر، والتي تعتبر امتدادا لنظرية دافيد هيوم، واكتشافه لا يقينية ولا علمية الاستقراء بشكل عام، لا تسمح بإسقاط النظريات العلمية التي أثبتت فاعليتها حتى الآن على المستقبل، ذلك لأنها ضرب يتعارض في بنيته العلم.

وتطرق فرحان إلى عدد من المحاور الرئيسية تمثلت في تساؤلات: ماذا أحدث كارل بوبر في جميع النظريات العلمية؟ تقوم فلسفة بوبر على دحض جميع الدغمائيات، وتحاول فتح الأفق أمام تطوير النظريات العلمية،فماذا قصد كارل بوبر بهذا الكلام؟ وكيف استطاع التوصل إلى هذه النظرية؟ وما الانعطافة التي أحدثها على مستوى الإبستمولوجيا؟.. وغيرها من الأسئلة التي تفتح أمامنا الأفق، وتكشف عن بعض الثغرات التي رآها العديد من الفلاسفة من خلال إلقاء الضوء على المعارضين مع رؤية كارل بوبر.

ورأى ان بوبر استطاع أن يعري كل النظريات التي تحتاج إلى تعرية، ويطور ما يحتاج إلى تطوير، لكنه قام بدحض كل ما هو قائم على الوهم "المعرفة الذاتية، أو اليقينية" من خلال تبني منهجية فرضية استنباطية مختلفة عن المنهج الاستقرائي الذي كان متبعا؛ بالظواهر الطبيعية وحقيقتها.

وقسم فرحان كتابه إلى ثلاثة فصول تتابعت "أبرز مفاصل العلم الحديث، بداية من الثورة الكوبرنيكية، والمرور بلمحة عامة على أبرز الاكتشافات العلمية، ومتابعة أبرز المشكلات التي واجهت مناهج العلم بداية من نقد هيوم للاستقراء، مرورا بمعالجة كنط لهذه المشكلة. وبعد المرور بالهندسة اللاإقليدية، والفيزياء النسبية، وفلسفة فتغنشتاين "الأب الروحي للوضعية"، بدأ البحث في فلسفة كارل بوبر التي حاولت معالجة كل المشكلات السابقة،في محاولة منه لكشف المنطق العلمي وكيفية تطويره لمعرفة الكون بطرق أكثر تعزيزا استنادا إلى المنهج الاستنباطي الفرضي، ومنهج المحاولة والخطأ. وقد استبعد بوبر المنهج الاستقرائي بعد أن رفض معالجة هيوم السيكولوجية لمشاكل هذا المنهج، حيث أكد على أن مشكلة الاستقراء يجب ألا تعالج إلا بشكل موضوعي. في هذا السياق، رفض بوبر المعيار الذي وضعه الوضعيون المنطقيون للفصل بين العلم والميتافيزيقا، ووضع معيارا مختلفا وهو معيار قابلية الدحض الذي يفصل بين العلم وأشباه العلم".

ورأى أن بوبر بنى وفق هذه الأسس رؤيته للعلم، ولفلسفة العلم، محاولا بذلك وضع العلماء على الطريق الصحيح، ووضع العلم على الطريق التي تبرز ما يمكن أن يطوره أكثر وأكثر. فالعلم، حسب بوبر، هو افتراضي لكيفية العالم، وهو ليس معرفة بالمعنى اليقيني، بل معرفة العالم لا تأتي إلا على صعيد استبعاد الأخطاء من خلال تبني معيار الدحض المرادف لمعيار الاختبار الذي يطبقه العلماء. لكن محاولة بوبر لاقت اعتراضات كثيرة من قبل العلماء والفلاسفة الذين توصلوا إلى اعتبار الدحضية تؤدي إلى دحض بنية العلم بالكامل، وإلى العدم المعرفي؛ لأن تاريخ تطور العلم لا يقوم على تاريخ استبعاد الأخطاء، بل على تطوير معرفة الانسان بالطبيعة أولا، وبالحقيقة الموضوعية ثانيا.

ولفت أن بوبر كان قد رفض القضايا الاحتمالية على اعتبار أنها مفيدة للعلم لأنها غير قابلة للدحض "للاختبار". إلا أنه، وبعد التدقيق، ظهر أن بوبر لم يرفض تلك القضايا إلا ضمن البنية الداخلية للعلم، ولكنه كان قد استخدم المنهج الفرضي الاستنباطي الذي يقوم على فرضيات تأخذ طابعا احتماليا يتم التحقق منها بالتجربة، ما يعني أن بوبر رفض تلك القضايا الاحتمالية واستبعدها من البنية الداخلية للعلم، لكنه انطلق من مثيلاتها، واعتبرها الأساس الذي يقوم عليه العلم. بالإضافة إلى أن العلم المعاصر، لا سيما في الفيزياء النووية، كان قد استخدم مثل هذه القضايا، وأكد عليها بما يتعارض مع ما قال به بوبر أيضا.