بايل وليبنتز وجها لوجه

الفرنسي بيير بايل فيلسوف الشكية والفيزيائي الألماني ليبنتز يشكلان تأثيرا واضحا ومحوريا وكبيرا في فكر وفلسفة القرن الثامن عشر.
عزالدين يحلل الأطروحات الفكريّة التي تناولت مسألة الشرّ عند بايل وليبنتز
الشرّ شرط من الضّروري تواجده في أفضل كون ممكن

شكل الفرنسي بيير بايل فيلسوف الشكية وممثل حركة التنوير الفرنسية، والفيلسوف والرياضي والفيزيائي الألماني غوتفريد ڤيلهلم ليبنتز، تأثيرا واضحا ومحوريا وكبيرا في فكر وفلسفة القرن الثامن عشر، بجدلهما الفكري والفلسفي الطويل الذي تمحور جلّه في مسألة العقل والعقيدة. وهذا الكتاب "إشكالية ملاءمة العقيدة للعقل في الفلسفة الحديثة.. بيير بايل في مواجهة ليبنتز" للباحث التونسي د. محمد الحبيب عزالدين ينطلق من هذا الجدل وهذه الإشكالية، مدافعا بالبراهين عن توافق ضروريّ بين العقل والعقيدة، ومعترضا على موقف بيير بايل الرّيبيّ الذي أعلن عن عجز العقل الجذري عن أن يقرّر بشكل نهائيّ عن حقيقة ما، وهذا ما جعله يصبّ في صالح شكوكيّة عمّقت من هوّة الالتباس، وزعزعت أسس اللاّهوت العقلاني عبر تأبيدها للجدل والاعتراضات، ومنتهيا إلى الإعلان عن عدم ملاءمة العقيدة للعقل، وضرورة الاحتماء بإيمانيّة مفترضة يُلتَجأ إليها بوصفها مصدر إلهام بديلاً.
والإلهيّات، أو الفلسفة الإلهيّة وفقا للباحث التونسي في كتابه الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود هي "عبارة عن ذلك الجهد الفكري الذي يهدف إلى الكشف عن السّبل والمسالك التي تؤدّي إلى الإله، وإلى البرهنة على معضلة وجود الشرّ من خلال الإجابة عن سؤال: كيف لإله مطلق القدرة والطيبة أن يكون قادراً، مع ذلك، على أن يخلق عالماً يوجد فيه الشرّ؟
يتوقف عزالدين عارضا ومحللا الأطروحات الفكريّة التي تناولت مسألة الشرّ عند بايل وليبنتز باعتبارها مسألة محوريّة في صراع العقل مع العقيدة، وتفحّص مختلف المسائل المطروحة في كتاب الإلهيّات لليبنتز، والتّأكيد على تفاعله مع مختلف المسائل المطروحة في عصره والردّ عليها، ولاسيّما اعتراضات بيير بايل ومناقضاته.

من بين كلّ هذا المزيج من التّدابير والاستنباطات اللّامتناهية، فضّل الإله اختيار واحدة؛ حيث يتوجّب على آدم من خلالها أن يرتكب الخطيئة، وجعل منه المستقبل عبر قضائه وقدره، الذي فضّله على كل ممكنات الأحكام الأخرى

ويقول "وفق ليبنتز، لا بُدّ من الإقرار بوجود الشرّ في هذا العالم الذي أوجده الإله، وكان بإمكان الإله كذلك أن يُوجد عالماً دون شرّ، ولكنّ أفضل السّبل أو الحلول ليست تلك التي تنزع نحو تفادي الشرّ، بما أنّه يحدث أحياناً أن يكون الشرّ مصحوباً بقدر كبير من الخير. وأنّ اللّاكمال الموجود في جزء من الأجزاء يمكن أن يكون مطلوباً لتحقيق أكبر قدر من الكمال على مستوى الكلّ. ومن علامات النّظام والانسجام والخير العام أن مكّن الإله عدداً من مخلوقاته من فرصة ممارسة حرّيّاتهم، مع أنّه كان يعلم مسبقاً أنّهم بهذه الفرصة سيتوجّهون نحو ارتكاب الشرّ. ولربّما يحدث أن يقوم ذلك القدر الفائض من الخير الموجود عند المخلوقات غير المدركة (اللّاذكيّة التي يغصّ بها العالم) بتعديل ذلك الفائض من الشرّ الموجود عند المخلوقات العاقلة. كما يحدث كذلك أن يكون مجد وكمال السّعداء (أهل الجنّة) أكبر بكثير من شقاء ولاكمال أولئك الهالكين (الذين ينتظرهم عذاب جهنّم). ومن هنا، فإنّ تفوّق مجمل الخير، رغم قلّة عدده، هيمن على مجمل الشرّ، رغم كثرة عدده".
ويضيف عزالدين "يمثّل هذا، بالإضافة إلى ذلك، بمنزلة النّتيجة للكمال الأسمى لسيّد الكون، وحيث تصبح مملكة الإله هي من بين أكمل أنظمة الحكم الممكنة، وحيث يصبح، نتيجة لذلك، ذلك القدر القليل الموجود من الشرّ مطلوباً من أجل تحقيق أكبر قدر من الخير الواسع وغير المحدود داخل هذا الكون، فإنّ الشرّ هو شرط من "الضّروري تواجده" في أفضل كون ممكن، وأنّ حتميّة وجوده مكتوبة في سجلّ الحقائق الخالدة، ومصدره يوجد داخل الأشكال الممكنة والسّابقة على أفعال إرادة الإله. 
ويحدُث، بالإضافة إلى ذلك، أن نكون قادرين على منع وقوع الخطيئة، ولكن عندما لا نصبح قادرين على فعل ذلك، فإنّ ذلك يعود إلى أنّه ليس بإمكاننا منع الخطيئة دون أن نرتكبها بذاتها. وهكذا، فإنّ الإله لا يرغب في الشّرور، لكنّه يرغب في السّماح بوجودها من أجل خير أكبر، وإنّه سوف لن يعفي نفسه منطقيّاً من تفضيل ذلك لاعتبارات أخرى؛ وهذه إرادة "تابعة ناتجة عن إرادات «سابقة"، التي يرغب الإله من خلالها في تحقيق الخير. وتتحوّل الإرادة الإلهيّة "التّابعة" إلى إنتاج أكبر قدر من الخير أمكن لنا تجميعه، وتصبح بمقتضى ذلك عمليّة تدبيره وترتيبه محدّدة بشكل أكثر دقّة. وتشتمل أيضاً هذه الإرادة على السّماح ببعض الشّرور، واستبعاد بعض أنواع الخير، وهذا يمثّل أفضل مخطّط بيانيّ مطلوب للكون. وهكذا، يُصبح الإله علّة كلّ الكمالات، وكل محدوديّة أو منع أو حرمان إنّما هو ناتج عن عدم كمال المخلوقات، هذا السّبب الذي يُضيّق؛ بل يحدّ من قدرة هذه المخلوقات على الاستيعاب والإدراك".
ويرى أنه "دائماً، حسب ليبنتز، من الخطأ القول بأنّ كلّ قضاء أو تحتيم مسبق سيكون ضروريّاً، هذا إذا ما كنّا نعني بضرورة ارتكاب خطيئة ما أو عدم ارتكابها مفهوم الضّرورة المطلقة. وإنّ الضّرورة المناقضة للأخلاقيّة هي في الحقيقة ضرورة لا يمكن التغلّب عليها؛ لذلك لا فائدة من الاعتراض عليها، مهما توافرت لدينا الرّغبة الجدّية في تجنّب الفعل الضّروري، ومهما بذلنا كلّ الجهد الممكن للقيام بذلك. إلّا أنّه -يواصل ليبنتز- من الواضح أنّ ذلك يُعدّ غير قابل (بشكل تام) للتّطبيق على الأفعال الإراديّة، بما أنّنا لسنا مستعدّين للقيام بأيّ فعل، إذا ما كنّا غير راغبين في ذلك مع أنّ القضاء والقدر، وإدراك الشّيء قبل حدوثه، لا يمكن أن يكونا تامّي الإطلاقيّة، ولكنّهما يفترضان الإرادة. ولا يمكن لهذه الأفعال الإراديّة، وما يتبعها، أن تحقّق مرامها بأيّ شكل كان، أو مهما رغبنا أو لم نرغب، ولكن لأنّنا سنفعل، ولأنّنا نرغب في فعل ما نحن مسيّرون فيه؛ وهذا موجود داخل القضاء والقدر. وتقوم الأسباب بدفع الإرادة وتوجيهها إلى شيء ما دون أن تفرض عليها بالضّرورة أن تختاره، لهذا، فإنّ القضاء المسبق، الذي نتحدّث عنه، لا يعني البتّة اللّزوم؛ لأنّه من الأكيد أنّ ردّة الفعل ستتبع هذا الميل أو ذاك النزوع، ولكنّ تبعيّتها هذه ليست نتيجة ضروريّة وملزمة، وهذا يعني أن عكس ذلك يتضمّن تناقضاً". 

فلسفة الشك
لا بُدّ من الإقرار بوجود الشرّ 

ويلفت إلى إنّ الأسباب التي تدفع الإله إلى التغلّب على المقاومة التي تصدر عن قلب الإنسان، سواء عبر فيض، أو عناية داخليّة، أو عبر ظروف وعوارض خارجيّة، عند البعض وليست عند البعض الآخر، لا يمكن أن تكون - باعتراف ليبنتز - إلّا أسباباً مخفية في عمق حكمة الإله، التي تتبع الانسجام الكونيّ. وإنّ أفضل مخطّط للكون، الذي لا يمكن للإله أن يتخلّى عن اختياره، قد وقع تناوله بهذا الشّكل. ونحن لسنا بصدد الحكم على الحدث نفسه، بما أنّ الإله قد أحدثه، ولم يكن ممكناً أن يحدث أفضل منه. ومع ذلك، يؤكّد ليبنتز أنّ الإله حرّ، وهو المتحكّم دائماً والمطاع أبداً. وأثناء إرادته، الإله يتبّع دوماً ميولات طبيعته، وبقيّة الأشياء الأخرى تتبع دائماً إرادته.
ويتساءل عزالدين: ماذا قال بايل في هذا الشّأن؟ ويقول "لم يتردّد بايل في تسجيل بعض الملاحظات - كما سبق أن ذكرنا - بخصوص ما ذكره ليبنتز؛ أوّلها أنّ السّؤال لا يتعلّق بمعرفة ما إذا كان الخير أكثر من الشرّ لغاية الوصول إلى تأكيد طغيان الخير على الشرّ، وإنّما يتعلّق أساساً بسبب وجود الشرّ؛ أي لماذا يوجد الشرّ أصلاً؟ وثانيها أنّ نسقه الفكري لم يُحمّل الصّانع مسؤوليّة إيجاد الشرّ. وقد طلب منّا ليبنتز، أن ننعت أفعالنا بـ "الإراديّة" "أيّاً كان شكل التّأثير المباشر للإله في عمليّة التّنفيذ أو الإنجاز". إلا أنّ ظهور الأفكار ليس فعلاً حرّاً في حدّ ذاته؛ حيث إنّنا، حسب ليبنتز "لا نُنشئ أفكارنا بمجرّد أنّنا نرغب في ذلك؛ إنّها تتشكّل داخلنا وفق طبيعتنا وطبيعة الأشياء". إنّها تنبع من الإله، وهو الذي خلق الإرادة، ووجّه الجهود والأفعال. وإذا ما رغب الإنسان في التخلّص من فعل سيّئ، فإنّ الإله هو الذي منحه تلك الإرادة أو ذاك الاختيار، ومَنّ عليه بنعمة العناية وفضل إرادة التخلّص والانفكاك من كل ما هو مشين وخبيث. لقد عدّل الإله النّفس الإنسانيّة بشكل يجعلها إمّا قادرة على القيام بكلّ الجهود والمساعي الممكنة، وإمّا غير قادرة عليها. فالإله يمنحنا الإرادة والفعل أو التّنفيذ ؛ إنّه سيّد الإرادات، الذي حدّد مفهومنا ومجال اطّلاعنا الذي يسمح لنا بالقيام بأفعال معيّنة، والذي سيدفعنا إلى أن نرغب في فعل ما وجّهنا هو إلى القيام به، أو أيضاً وفق ما سيمنحنا، أو ما لم يمنحنا إيّاه، عبر فضله ومنّته الخفيّتين، وما نريد وما لا نريد القيام به من الأفعال التي وجّهنا هو إلى القيام بها.
ويلفت إلى أنه بخصوص السّؤال عمّا إذا كان القضاء والقدر يتحدّدان قبل أو بعد منح النّعمة والفضل للعباد، ويضيف "إنّ الإجابة في الحقيقة لا تكتسي أهمّيّة تُذكر؛ لأنّ المخلوقات عموماً لم توجد عبثاً، بما أنّ الإله هو الذي يقدّرها مسبقاً عبر فضله ورعايته، وهو الذي يريد أو لا يريد استكمال هذا الفعل أو ذاك، و«معرفته بواجبه، وعمليّة الانسجام بين الإرادة وهذه المعرفة، ما هي إلّا أفكار أو تأمّلات تجعل من السّهل للغاية على الإله التّواصل مع أرواحنا، أكثر من سهولة غلق رسالة بعد التّوقيع عليها بالنّسبة للإنسان». وللإشارة فقد وافق ليبنتز على ذلك".
ويقول "لقد خلق الإله الطّبيعة البشريّة، وحمّل الإنسان إذاً المسؤوليّة. وحتّى قبل الخطيئة الأولى وعمليّة الإنزال، لقد منح الإله حوّاء - وفق فهم معيّن - طبيعة يجعلها من خلالها عرضة لأن تُخدع، وأن يُغرّر بها من طرف ثعبان. وقد سمح بأن التقى هذا الأخير مع حوّاء، وجعلها تعتقد بأنّ الإله عندما منعها هي وآدم من الأكل من ثمار تلك الشّجرة إنّما كان يريد الحؤول دون استفادتهم من خيراتها. ولكن أن نقول إنّ الإله لم يقم سوى بتحيين المفهوم الممكن لحوّاء تماماً كما كان دائماً، فإنّ ذلك لا يغيّر شيئاً من المشكل. ولم يقم في الحقيقة سوى أن ترك لها اختيار إمكان أن لا ترتكب الخطيئة. "وإذا ما علم - قبل أن يقضي بحكمه - بأنّ آدم وحوّاء سيجدان نفسيهما في وضعيّة تجعلهما يعصيان أوامره، فإنّه سيعلم كذلك أنّهما يمكن أن يجدا نفسهيما في وضعيّة أخرى تدفعهما إلى القيام بهذا الفعل دون غيره من الأفعال. فالإله يعلم عدداً لا متناهياً من الظّروف والوضعيّات التي سيتصرّف آدم وفق كلٍّ منها بالشّكل الذي يتناسب مع كل حالة. وسيكون من العبث القول بأنّه لا يوجد البتّة إمكانيّة لمزج هذه الظّروف وإيجاد مشتركات بينها؛ بحيث يمكننا توقّع أنّ آدم سيقوم بواجبه". 
إلّا أنّه "ومن بين كلّ هذا المزيج من التّدابير والاستنباطات اللّامتناهية، فضّل الإله اختيار واحدة؛ حيث يتوجّب على آدم من خلالها أن يرتكب الخطيئة، وجعل منه المستقبل عبر قضائه وقدره، الذي فضّله على كل ممكنات الأحكام الأخرى". وإذا ما كانت كلّ الأشياء التي لا تتضمّن تناقضاً هي ممكنة للإله، فإنّ من الممكن له أن يخلق البشر الأوائل بالشّكل الذي لا يجعلهم من فئة المذنبين أو مرتكبي الخطيئة، فأيّ تناقض يمكن أن ينتجه هذا الفعل؟