بحثا عن مشروع وطني فلسطيني

لا يمكن الّا الترحيب بترؤس فلسطين لمجوعة الـ77. سيكون الترحيب اكبر لو وجد من يعترف بان السياسة الخارجية شيء والسفر الى الخارج شيء آخر.

لا يختلف اثنان على ان رئاسة فلسطين لاكبر تجمع لاعضاء في الامم المتحدة، وهو مجموعة الـ77، يشكّل انتصارا معنويا كبيرا، خصوصا ان هذه المجموعة التي بدأت بـ77 دولة صارت تضمّ، مع مرور السنين، 134 عضوا من أعضاء الامم المتحدة. فوق ذلك كلّه، انّ فلسطين ليست عضوا كامل العضوية في الامم المتحدة. تتمتع فلسطين بصفة مراقب وهذا يعطي فكرة عن ان هناك قضيّة ما زالت حيّة هي قضيّة شعب حرم من حقوقه ويعاني من الاحتلال الاسرائيلي لارضه، بل للزحف المستمرّ لهذا الاحتلال الذي يعني بين ما يعنيه تحويل الأرض الفلسطينية الى ارض طاردة لاهلها.

سلّم وزير الخارجية المصري رئاسة لجنة الـ77 الى رئيس السلطة الوطنية محمود عبّاس (أبو مازن). ترافق ذلك مع احتفال عربي في نيويورك بتلك المناسبة التي تشير الى اختراق سياسي جديد للقضيّة الفلسطينية يمكن اعتباره امتدادا للزيارة التي قام بها ياسر عرفات لمقر الامم المتحدة في العام 1974 والقاء خطابه المشهور الذي قال فيه موجها كلامه الى المجتمع الدولي: "لا تدعوا غصن الزيتون يسقط من يدي".

هناك بالطبع انجاز ديبلوماسي كبير. لكنّ هذا الإنجاز لا يمنع طرح سؤال في غاية الاهمّية. يتعلّق هذا السؤال بما هي الترجمة العملية لهذا الإنجاز على ارض الواقع، أي ارض فلسطين والضفة الغربية تحديدا؟

عندما انعقد مؤتمر مدريد للسلام في تشرين الاوّل – أكتوبر 1991، تحدّث اسحق شامير، رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتذاك، عن خلق امر واقع جديد على الأرض. قال ما معناه ان إسرائيل ستفاوض في حال وجدت نفسها مضطرة الى ذلك تحت الضغط الاميركي، لكنّها ستعمل في الوقت ذاته على تغيير الوضع القائم على الأرض عن طريق الاستيطان. لمح شامير وقتذاك الى مفاوضات يمكن ان تستغرق عشر سنوات تستطيع إسرائيل خلالها تقطيع اوصال الضفّة الغربية بزرع اكبر عدد من المستوطنات فيها. لم يتغيّر شيء منذ ادلى شامير بتصريحاته هذه في مدريد بعدما اجبرته الإدارة الاميركية التي كان على رأسها جورج بوش الاب على حضور المؤتمر المنعقد في العاصمة الاسبانية. لم يتغيّر شيء منذ انعقاد مؤتمر مدريد، خصوصا ان بنيامين نتانياهو الذي كان ناطقا باسم الوفد الإسرائيلي في مدريد، صار رئيسا للوزراء وهو ينفّذ بدقّة متناهية ما رسمه رئيس الوزراء الإسرائيلي في اثناء المؤتمر الذي استضافته العاصمة الاسبانية. كان الهدف من مؤتمر مدريد التوصل الى تسوية شاملة في الشرق الاوسط في اعقاب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي.

هناك واقع جديد في فلسطين حاليا. هذا الواقع هو الذي يهمّ إسرائيل التي لم تؤمن يوما بالأمم المتحدة وقراراتها. في النهاية يهمّ إسرائيل الكونغرس الاميركي ونفوذها فيه اكثر بكثير من قرار يصدر عن الامم المتحدة او ترؤس فلسطين لمجموعة الـ77. لا ينفع فلسطين في شيء غياب أي نفوذ للسلطة الوطنية او لمنظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن. ولا ينفعها في شيء كل الاختراقات التي يمكن ان تحقّقها في الامم المتحدة في ظلّ وجود ما يزيد على 800 الف مستوطن إسرائيلي في الضفّة الغربية.

ثمّة فارق كبير بين الرحلات الخارجية والسياسة الخارجية. ثمّة فارق كبير بين الضفة الغربية الخالية من المستوطنين ووجود كل هذه الآلاف منهم فيها. ليست الضفّة الغربية حاليا سوى ارض محتلة مستباحة إسرائيليا. لا تستطيع مجموعة الـ77 ان تفعل شيئا في مواجهة إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل. لن يقدّم ولن يؤخر احتفال في نيويورك تقيمه المجموعة العربية لـ"أبو مازن" في مناسبة انتقال رئاسة مجموعة الـ77 الى فلسطين. ليس كلّ ذلك سوى جوائز ترضية لا تعني شيئا في نهاية المطاف ما دام عدد المستوطنين في الضفّة الغربية يزداد يوما بعد يوم في ظلّ تطويق مستمرّ للقدس.

لا يميّز الوضع القائم على الارض حاليا عمل إسرائيل كلّ ما تستطيع من اجل الغاء حل الدولتين، مستندة الى الاستيطان فحسب، بل يميّزه أيضا غياب أي علاقة أميركية – فلسطينية. هناك تجاهل فلسطيني للولايات المتحدة يترافق مع انحياز أميركي كامل لإسرائيل. توّج هذا الانحياز نقل السفارة الاميركية الى القدس واعتراف إدارة دونالد ترامب بالمدينة المقدّسة عاصمة لإسرائيل. الأكيد ان القيادة الفلسطينية الحالية لم تكن قادرة على عمل شيء لوضع حدّ للانحياز الاميركي لإسرائيل، لكنّها لم تفعل في المقابل ايّ شيء من اجل الإبقاء على شعرة معاوية مع واشنطن.

لعلّ اخطر ما في الامر، في هذه الايّام، انّ "ابومازن" نفسه لم يجد ما يقوله لمجموعة من الشخصيات الفلسطينية التقاها أخيرا في القاهرة انّ لا دولة فلسطينية مستقلّة في السنوات الـ15 المقبلة وان من يقول لكم عكس ذلك "كاذب". هذا كلام واقعي وصادق يصدر عن رجل يعرف تماما ان حلّ الدولتين لم يعد قائما في ظلّ المعطيات المتوافرة. ما لم يقله رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية هو ما الذي سيتغيّر في السنوات الـ15 المقبلة حتّى يصبح بعد ذلك الكلام عن الدولة الفلسطينية المستقلة كلاما مقبولا وكي يتخلّى الفلسطينيون عن يأسهم من امكان تحويل حلّ الدولتين الى واقع؟

الجواب ان شيئا لن يتغيّر. هناك 800 الف مستوطن في الضفة الغربية الآن. هذا العدد سيزداد في السنوات القليلة المقبلة. هناك استحالة لحلّ الدولتين بعدما صارت إسرائيل كلّها أسيرة الاستيطان. سيقرر المستوطنون في الانتخابات المقررّ ان تجري في ايّار – مايو المقبل من سيكون رئيس الوزراء. بقي نتانياهو ام لم يبق، لم يعد ذلك السؤال. اسرائيل صارت رهينة لدى المستوطنين بملء ارادتها. لكنّ اغرب ما في الامر ان لا مشروع وطنيا فلسطينيا بديلا من مشروع حلّ الدولتين الذي رفضته إسرائيل أساسا.

ثمّة حاجة اكثر من ايّ وقت الى مشروع وطني فلسطيني بديل يأخذ في الاعتبار ان مشروع الدولتين صار من الماضي، بل شبع موتا. يقوم هذا المشروع، الذي لعبت إسرائيل دورا في قتله بمشاركة منفذي العمليات الانتحارية من "حماس" وغير "حماس" في مرحلة ما بعد اتفاق أوسلو في 1993، على انّ هناك فلسطينيين متمسكّون بارضهم. هؤلاء يقاومون الاحتلال يوميا ويرفضون تحويل الضفّة الغربية ارضا طاردة لاهلها. يتحمّل هؤلاء ما لم يستطع أي شعب آخر تحمّله وهم يعرفون تماما ان سياسة الاستيطان لن تكون قادرة على الغاء الهوية الفلسطينية في يوم من الايّام.

لا يمكن الّا الترحيب بترؤس فلسطين لمجوعة الـ77. سيكون الترحيب اكبر لو وجد من يعترف بان السياسة الخارجية شيء والسفر الى الخارج شيء آخر، وان لا بديل في الوقت الراهن من بحث عن بلورة لمشروع وطني فلسطيني جديد في ظلّ انتفاء مشروع حلّ الدولتين.