بدء التحقيق في جرائم اسرائيل بحق الاسرى المصريين

القاهرة - من محمد جمال عرفه
جنرالات اسرائيل اعترفوا بقتل آلاف الاسرى من الجنود المصريين

بعد ثمان وأربعين ساعة من موافقة مجلس الوزراء الإسرائيلي في اجتماعه يوم الأحد الثالث من آذار/مارس الجاري على مباشرة جمع المعلومات عن اليهود, الذين غادروا الدول العربية وإيران قبل وأثناء وبعد حرب عام 1948 لمطالبة تلك الدول رسميا بتعويضات، قررت النيابة العامة المصرية بدء التحقيق الثلاثاء الخامس من آذار/مارس في البلاغ المقدم من المنظمة المصرية لحقوق الإنسان, منذ أكثر من سبعة أشهر, بشأن المذابح, التي تعرض لها الأسرى المصريون في حربي عام 1956 و1967 على أيدي مجرمي الحرب الإسرائيليين، واعترف بها بعض القادة الإسرائيليين عام 1995.
وسوف تبدأ التحقيقات في الاستماع لشهادة أمين عام المنظمة حافظ أبو سعدة المحامي, الذي قامت منظمته بإعداد تقرير ميداني موثق بالشهادات والصور, تحت عنون "أعيدوا حقوق الأسرى وحاكموا القتلة"، وتشمل معاينة المقابر الجماعية لهؤلاء الأسرى الشهداء, والاستماع إلى شهادات الأحياء, ممن عاصروا هذه المذابح.
وقال حافظ أبو سعدة "إن الهدف من البلاغ, الذي تقدم به إلى النيابة المصرية هو "إعداد وثيقة, يمكن التحرك بها خارج مصر, لمحاكمة القتلة الصهاينة, في مراحل أخرى أمام محاكم دولية قانونية، وتعويض أسر ضحايا هذه المذابح من الشهداء, الذين يقدرون بالمئات".
وقال أبو سعدة إن مسألة إعلان قتل أسرى حرب مصريين من قبل جنرالات إسرائيليين في عام 1995 جرت بشكل استفزازي، مما أثار ضرورة القصاص وتحقيق العدل، وتواكب هذا مع توجه المجتمع الدولي لمعاقبة مجرمي الحرب, عبر اتفاقية تشكيل المحكمة الدولية لجرائم الحرب في روما عام 1998.
وقال "عندنا وقائع ثابتة, وشهادات تاريخية موثقة لأسرى نجوا, وكذلك شهادات للمجرمين, أدلوا بها بحرية في بلادهم، ولدينا كتاب (تقرير) أعددناه, يتضمن تفاصيل الجريمة بدقة شديدة, ويستوجب أن تأخذ به العدالة".
وحول توقعاته لما يمكن أن تسفر عنه تحقيقات النيابة المصرية قال "لا أعرف ما الذي سيفعله النائب العام المصري, ولكننا سنقدم الأدلة والشهود, ونأمل أن ينال المجرمون العقاب"، مشيرا إلى أن مجرم الحرب الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش, الذي يحاكم في هولندا حاليا كان رئيس دولة ولكنه حوكم.
وقال أبو سعدة إن "حصانة بعض المسئولين في دولهم مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي آرائيل شارون تعرقل محاكمتهم وتحميهم، إلا أن العدالة سوف تأخذ مجراها في النهاية, ومن المهم أن نبدأ التحرك".
وتستند المنظمة المصرية لحقوق الإنسان في بلاغها إلى شهادات أكثر من 56 من الأسرى والمدنيين المصريين, خلال حربي 1956 و1967, وحرب الاستنزاف، فضلا عن شهادات للمجرمين الإسرائيليين في صحف بلادهم.
ففي شهر آب/أغسطس عام 1995 بدأ الكشف عن الجرائم الإسرائيلية ضد الأسرى المصريين, باعتراف الضابط الإسرائيلي أرييه بيرو, قائد الوحدة العسكرية رقم 890, لصحيفة معاريف الاسرائيلية بارتكابه وآخرين مذابح جماعية ضد الأسرى المصريين, خلال حربي 1956 و1967، وأنه قام هو ووحدته بقتل 49 أسيرا مصريا أعزل من السلاح, أثناء حرب 1956, على أرض سيناء المصرية, وقيامه أيضا بقتل ما يزيد على 500 أسير مصري, بينهم عمال مدنيون كانوا يعملون في سيناء وقت اندلاع الحرب.
ثم توالت اعترافات القتلة والمؤرخين الصهاينة, وقد شارك فيها كل من بنيامين بن اليعازر وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي وإيهودا باراك, رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق, وآرائيل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي وعدد كبير من القادة العسكريين الإسرائيليين.
وقد تنوعت عمليات قتل المصريين بين دهسهم بالدبابات, أو إطلاق الرصاص عليهم, أو تجويعهم ورفض مدهم بالماء حتى يموتوا، فضلا عن انتزاع أعضاء منهم على يد طلبة الطب الإسرائيليين, ونقلها إلى تل أبيب لزرعها في أعضاء مرضى إسرائيليين.
وكانت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان قد قالت في بلاغها إلى النائب العام في مصر إنها ستتقدم ببلاغ مماثل إلى محكمة مجرمي الحرب ضد كل من آرائيل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي, وقائد اللواء المدرع التاسع في حرب حزيران (يونيو) 1967، ورفائيل إيتان رئيس الأركان السابق, وقائد كتيبة المظلات 890 في سيناء، ونائبه في قيادة الكتيبة ايرى ايرو, واثنين من الجنود أحدهما عقيد حاليا والثاني مقدم احتياط، وضد عاموس ناشانه, قائد كتيبة سابق في جيش الاحتلال الإسرائيلي والمسئول عن مذبحة "قادش" في سيناء.

البرلمان المصري يطلب محاكمة القتلة
وكان البرلمان المصري قد طرح مسألة قتل أسرى الحرب المصريين عدة مرات في مناقشاته, وطالب الحكومة المصرية بمطالبة الحكومة الإسرائيلية بمحاكمة القتلة، ودعا إلى محاكمتهم أمام محاكم جرائم الحرب الدولية.
وقد ناقش مجلس الشورى المصري في عدة جلسات له العام الماضي مسألة جرائم الحرب الإسرائيلية ضد العرب, وقرر إعداد تقرير في هذا الصدد, يتضمن وقائع سبق التثبت منها, عبر منظمات حقوق إنسان مصرية, بشأن قتل أسرى مصريين ومدنيين, وانتزاع أعضائهم, وإجراء تجارب عليهم, بمعرفة طلبة الطب الإسرائيليين!.
كذلك تقدم عدد من نواب البرلمان المصري بطلبات إحاطة وأسئلة للحكومة المصرية ولوزير الخارجية بشأن ما فعلته الحكومة المصرية من أجل الأسرى الشهداء المصريين، وحرص وزير الخارجية السابق عمرو موسى والحالي أحمد ماهر على تأكيد أن جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم، وأن مصر تقدمت بطلبات إلى الحكومة الإسرائيلية لا تزال تبحثها.
كما اتهم نواب برلمانيون، مثل النائب البدري فرغلي نائب حزب التجمع المصري المعارض بالبرلمان, الحكومة بالتراخي في إقامة دعوى قضائية ضد الحكومة الإسرائيلية, تطالب فيها بتعويض قدره 20 مليار دولار, عما ارتكبته تل أبيب من جرائم بحق الجنود المصريين, واغتيال الأسرى, في مخالفة واضحة للقوانين والمعاهدات الدولية، مشيرا إلى اكتشاف العديد من المقابر الجماعية للأسرى المصريين وهم موثقو الأيدي.
وتساءل فرغلي في استجوابه لرئيس الوزراء المصري, عما يمنع الحكومة المصرية من التحرك, واتخاذ إجراءاتها أمام المنظمات الدولية, بعد إعلان قادة جيش الاحتلال أنهم قتلوا آلاف الأسرى المصريين خلال الحروب السابقة, واعتراف هؤلاء بتخلصهم من الأسرى داخل مقابر جماعية, بعد إطلاق الرصاص عليهم, ودهس بعضهم بالدبابات.
وتساءل فرغلي أيضا ما هو الحرج الذي يمنع الحكومة من اتخاذ الإجراءات القانونية لتعويض أسر هؤلاء الشهداء, وهناك سوابق لمحاكمة مجرمي الحرب الألمان, ومجرمي الحرب الصرب. كما أشار البدري فرغلي في استجوابه إلى مطالبة المجلس اليهودي العالمي بدفع تعويض قدره 6 مليارات ونصف المليار دولار عن قيمة ممتلكات اليهود, الذين كانوا يقيمون في مصر قبل عام 1948 وما بعدها.

الغرب يسخر المحاكم الدولية لمصالحه فقط!
يذكر أنه رغم أن فكرة محاكم جرائم الحرب نشأت بدعوى أنها محاكم دولية لمحاكمة مجرمي الحرب, الذين ارتكبوا مجازر ومذابح في حق الأبرياء من البشرية، فقد تحولت إلى محاكم تحكم بأمر القوى العظمى, التي تحكم العالم, ولصالحها, ضد الأفراد والدول, التي تعارض الهيمنة الغربية.
ومنذ محاكمة النازيين الشهيرة واليابانيين بعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد أحد يسمع سوى عن محاكمة (أعداء السامية) من النازيين وأعوانهم, الذين قيل إنهم دبروا محارق الهولوكوست ليهود ألمانيا.
أما عن المجازر, التي اقترفها جزارو الصرب, فقد كانت أشد بشاعة من جرائم النازيين، وأكثر وضوحا، وخشيت الدول الأوروبية وأمريكا من رد فعل إسلامي غير مرغوب فيه من جانب مسلمي البوسنة والبلقان عموما, بشكل قد يهدد الوحدة الأوروبية، ولهذا فقد اتفق على إعادة فتح هذه المحاكم التابعة للأمم المتحدة في هولندا لاستقبال مجرمي الحرب الصرب, الذين بلغ عددهم المئات, ولكن لم يقدم منهم للمحاكمة سوى حوالي 30 مجرما فقط, بل وقدم مسلمون وهم ضحايا الإرهاب الصربي, وكروات, ذرا للرماد, ولعدم إغضاب الصرب من هذه المحكمة.

إعفاء المجرمين الصهاينة!
ومع أن كبار الجنرالات الإسرائيليين قاموا بعشرات المذابح ضد العرب والفلسطينيين، منذ مذبحة اغتصاب فلسطين مثل مذبحة "قبية" عام 1953م, وقتل الأسرى المصريين في حربي 1956 و1967م، ومذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982م، ومذبحة قانا عام 1998، ومذابح المخيمات الحالية، إلا أن من يديرون هذه المحاكم في الغرب رفعوا شعار: لا نري.. لا نسمع.. لا نتكلم.
وحتى عندما قدم جزار الصرب ميلوسوفيتش لمحكمة جرائم الحرب, بناء على صفقة بين الحكم الجديد في بلاده والغرب لمدها بالمعونات المالية ورفع الحصار، تفاءل البعض بإمكانية تقديم جزار الفلسطينيين شارون للمحاكمة, خصوصا أن قضايا معززة بالأدلة قدمت بالفعل ضده في بلجيكا وفرنسا, ثم سرعان ما ظهر التواطؤ الدولي, لحد الضغط على بلجيكا لتغيير قانونها, الذي يسمح بمحاكمة مجرمي الحرب.
وفي المقابل ارتفعت الأصوات في الغرب تطالب بمحاكمة أفراد وزعماء دول تناهض السياسية الأمريكية, مثل الرئيس العراقي صدام حسين, أو الكوبي فيدل كاسترو, أو قادة حركة طالبان, رغم أن حالة شارون واضحة, ولا تحتاج لبرهان، وهو ما يعزز بوضوح الفكرة القائلة إن هذه المحاكم "محاكم غربية", أو محاكم للقوى الكبرى, توظفها لمحاكمة الأفراد أو الدول الخارجة على طوع هذه الدول.
ويدلل خبراء قانون دولي مصريون على أن الدول الكبرى مثل أمريكا, لا تسعى فقط لمحاكمة أعدائها ومخالفيها السياسيين من الأفراد والدول، بل وتسعى في المقابل لمنع محاكمة رعاياها أمام هذه المحاكم, مثل ما يحدث بالنسبة للمحكمة الدولية لجرائم الحرب, التي ترفض أمريكا وإسرائيل التوقيع عليها, حتى لا تعرض مجرميها للمحاكمة أمامها!.
ففي عام 1990 صدر قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة بتشكيل محكمة الجزاء الدولية، وبعد مشاورات تم التوصل إلى اتفاقية روما, التي وقَّعت عليها 129 دولة عام 1998. وقد سعت واشنطن لعرقلة إنجاز مواد في ميثاق تشكيل المحكمة الجزائية، كالمساواة بين سائر الدول، أو الحيلولة دون وقوعها تحت تأثير منظمات دولية أخرى، وعلى وجه التحديد مجلس الأمن الدولي. وقد جرت تعديلات عديدة على الميثاق في الاتجاه السلبي، مما يجعل المحكمة الجزائية، وإن بدأت أعمالها، مقيدة أو دون مستوى تحقيق الهدف منها على الوجه الأمثل والنزيه.
وليست هناك معايير واضحة للمحاكمة, مما يعني فتح الباب للقوى الدولية المهيمنة عالميًّا لممارسة ضغوط, عبر مثل تلك المحاكمات أو التهديد بها، اعتمادًا على المقاييس الغربية، والتقارير الغربية، كالتقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان مثلاً.