برج عبدالفتاح مرسي شاهد على "الليل وجبروته"

فكرة البرج تلح على عقل بطل الرواية الذي يتضح له أن ثمة خطأ في مكان البرج.
الضابط يخبره أن البرج يوجد في الدخيلة وليس في كامب شيزار، وأنه ليس 57 طابقا بل 77 طابقا 
البرج مكون من 127 طابقا فى كل طابق 24 شقه وبعض هذه الشقق انقسم إلى عدة مكاتب وشركات

بأسلوب متدفق ينطلق الروائي عبدالفتاح مرسي في سرد أحداث روايته الجريئة "الليل وجبروته"، التي تبدأ بموقف ـ على المستوى الواقعي ـ لبطل القصة وخطيبته أثناء سيرهما معاً على شاطى البحر، حين يقابل البطل معلمه القديم سيد افندي، والذي يخبره بأن ثمة برج هائل تم تشيده في منطقة كامب شيزار!
وتتصاعد الأحداث وتلح فكرة البرج على عقل البطل، الذي يتضح له أن ثمة خطأ في مكان البرج، حيث يخبره الملازم أول صلاح (شقيق خطيبته) أن البرج يوجد في الدخيلة وليس في كامب شيزار، وأنه ليس 57 طابقا بل 77 طابقا .
ولا يلبث إبراهيم أبوالوفا صديق البطل المقيم بحي العامرية أن يؤكد له أن البرج يوجد بحي العامرية وليس بالدخيلة ـ كما أخبره صلاح ـ وأنه أعجوبة وقد تكفلت ببنائه عدة شركات أميركية أوروبية وهو مكون من 127 طابقا فى كل طابق 24 شقه وبعض هذه الشقق قد انقسم إلى عدة مكاتب وشركات، والشقة تباع بأكثر من مليون جنيه !
يواصل  الكاتب بإسلوبه السهل وبتدفقه الفني صياغة أحداث روايته من خلال بطل عمله الذي قرر اصطحاب أخيه (سالم) والذهاب إلى البرج، فى محاولة منه لعلاج أخيه (عباس) المصاب بلوثة عقلية مفاجئة ـ مهد لحدوثها الكاتب تمهيدا سريعا ولكنه منطقي ـ فهو قد قام برسم شخصية عباس وما تكبده كموظف صغير يحيا في وسط يمتلىء (بالكسيبة) من (الصنايعية) وتحت ضغوط هائلة من زوجته أصيب بلوثه عقلية تدفعه في إصرار غريب إلى محاولة قتل (محمود الحضري) أحد النواب المعارضين، بعد أن تسلل خلسة إلى حجرة الملازم صلاح واستولى على مسدسه الميري .

الإطار الذي قدمت به الرواية يحمل فكر المؤلف المزدحم بالعديد من القضايا الشائكة كأنه المهموم الواعي بما يقوله

ومما يحسب للكاتب تصويره الجيد لشخصيات الرواية، فها نحن نواجه بسالم الأخ الاكبر المصر دائما على الشكوى من نفقات بيته وما عليه من أقساط وشيكات وعملية تجهيز ابنته للزواج وراتبه الضئيل، وتزمته الواضح وإصراره على أن يحل محل الأب دونما تحمل أيه مسئوليات! ترى ماذا يعني المؤلف؟! وإلى ماذا يرمي؟! وهل يقصد جهة محددة بالذات أم فرد بعينه؟
الاجابة متروكة للقارىء الذي يعمد المؤلف دائماً إلى دفعه دفعا لأعمال عقله.
ومن الشخصيات التي أجاد المؤلف رسمها (نورا) تلك الفتاة الشهية المثيرة وما تحمله شخصيتها من دلالات كثيرة، وقد نجح الكاتب في إيضاح  كيفية سيطرتها على البطل وتحكمها فيه، ما بين عملية كر وفر أنثوية ماهرة .
وهيمة (إبراهيم عبدالسميع) ذلك البك الكبير في البرج، والذى كان نزيلا مع بطل الرواية في السجن حيث كان يزاول أعمال النصب وبيع العملة المزيفة، وقد فوجىء به البطل في برج العامرية، في هذا المنصب الرفيع الذي يشغله.
وحسين الألمانى (الوكيل الأعظم) صاحب توكيل من بنك أميركي أوروبي، حيث يقوم بتوريد لوازم المبنى من رغيف العيش حتى العجول المذبوحة على الطريقة الإسلامية، فهو له حق قضاء الخدمات من شراء إلى بيع كافة ما يحتاجونه أو يستغنون عنه وذلك لشاغلي الطوابق من الأول حتى العشرين .
وشخصيات أخرى رسمها الكاتب بتلقائية شديدة لا يجد القارىء أمامها من بد سوى الغوص في أعماقها التي تسحبه معها إلى ذاتيتها المفرطة .
في تلك الرواية نجد أن الكاتب يطرح قضايا عديدة في حرية وجرأة فنية نادرة، فهو رغم غرابة الأحداث إلا أنه وبحرفية عالية يجعلنا نؤمن بصدقها، فنحن لم نشعر به قط يلوي ذراع الأحداث لتأكيد فكرة معينة، وكذلك لم تلو ذراعه الأحداث نفسها فتبعده عن الإطار العام الموضوع لروايته، فنحن أمام رواية عصرية تتناول العديد من القضايا المعاصرة الساخنة. الدين والشرف والسياسة والعلم والتكنولوجيا مع طرح مجموعة من النساؤلات مثل :
هل التدين هو ارتداء الجلباب ( الفرعوني)؟!
أم هو إطلاق اللحية مع ركوب أضخم وأفخم السيارات واستعمال أحدث الاجهزة (الحاسب الآلي، الفاكس، الموبيل) وذلك في تناقض غريب؟!
أم التدين هو مجرد الحفاظ على تلك الفتحات الصغيرة الحساسة فى جسم الإنسان؟
الكاتب تناول قضايا عديدة، بل إنه تطرق إلى عملية الاستنساخ، وذلك من خلال إشارته إلى تلك الفتاة الجميلة وكلبها الصغير وظهورها أمامه (هو وأخيه) ثلاث مرات في 6 دقائق فقط، وإصرارها في المرة الأخيرة على أنها لم تقابلهما سوى الان، ليتضح لنا فيما بعد أنهن ثلاث فتيات مستنسخات بل، وأن هناك جيشا كاملا أخر من المستنسخات الجميلات المثيرات واللاتى يعطونهن كهدية للعملاء ـ أنثى جميلة مثيرة مستنسخة مجانية على كل سيارة تباع ـ والكاتب مهموم بأبناء هذا المجتمع فهو حين يتحدث عن الفقراء يجعلهم وكأنهم الخط الدفاعي الأول للأغنياءـ وذلك من خلال مواقف وشخصيات كثيرة.
على سبيل المثال وليس الحصر  :
*  عباس المصاب بلوثة عقلية بسبب فقرة !
*  سيارة سالم رغم مظهرها الحقير وهي وسط كوكبة من السيارات الفارهة إلا انها الوحيدة التي تتعرض للسرقة، وهو حتى لا يمتلك ثمن البنزين الموضوع بها حيث قام بطل القصة بتموينها من جيبه الخاص.
*  رسوم تحصل نظير الصعود والهبوط وشفرات توضع لاستخدام المصاعد، لا يستخدمها سوى الصفوة .
*  تغير أسماء العمال الحقيقية واستبدالها بحروف لاتينية صماء.
هذا البرج المشيد فى الصحراء تتحكم فيه جهات عديدة لها أغراضها المعروفة، والتى لا تقدم سوى التفاهات نظير الحصول على مبالغ باهظة، وأمام سطوة المال نجد أن القاضي ووكيل النيابة والضابط ـ وكل من كان يحمل لهم البطل في أعماقة معاني الاحترام والتقدير  العميقة ـ ينخرطون داخل البرج ليصبحوا ضمن العديد من المرؤسين لكبارات البرج أمثال حسن بك بحبح صاحب امتياز المصاعد في شركته الخاصة (مصعدكو).
المؤلف تناول قضايا عديدة حتى الدادية والسرياليه في إشارة منه إلى إصرار الجهات العليا للبرج على تعليم وتدريب مثقفي البلد عليها .
هذه الرواية قد كتبت بضمير المتكلم وذلك في محاولة من الكاتب لإضافة المزيد من الصدق الفني لعمله، وعلى الرغم من صعوبة استعمال هذا الضمير في كتابة الرواية تحديداً إلا أن الكاتب وفق في استعماله إلى حد كبير وخاصة في لحظات التخيل والبعد عن الواقع  الملموس.
إن الإطار الذي قدمت به الرواية يحمل فكر المؤلف المزدحم بالعديد من القضايا الشائكة كأنه المهموم الواعي بما يقوله ـ ينفجر فينا بقسوة "الليل وجبروته" في انطلاقة فنية تحسب له في مسيرته الإبداعية التي كان من علاماتها: على حافة النهار ـ الدحديرة – المحسوس والملموس - المقطوع والموصول - المسخوط من سيرة على بلوط (خمس روايات). 
سبقت هذه الرواية  كما توالت  بعدها العديد من الأعمال الإبداعية الجيدة ما بين القصة القصيرة والرواية، بل والدراسات النقدية والأعمال التاريخية ليؤكد الكاتب على قدرته الفنية ومواهبه المتعددة، إلا أنه يقينا ستظل "الليل وجبروته" رواية ذات طابع خاص فهى رواية تنبوء قد كتبت قبل أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 (تاريخ انهيار برجى التجارة العالميين بأميركا). إنها حالة إبداعية نادرة  بدت وكأنها عملية تنبؤ لانهيار البرجين الشهيرين!
هكذا يبدو الفن الذي يتجاوز حدود الواقع، وهكذا يبدو المبدع المخلص لفنه، الواعي لقضايا وطنه، بل وعالمه كله.