بريد الفتى السومري وانفتاح النص الشعري

عدنان الفضلي يتخطى الحسّيات إلى أفق الرؤيا بمخاطبة الوجود والأشياء بلغة الفكر المتشظي.
النص يقوم على مجموعة من العتبات التي تقدم نفسها بفقرات تقتسم النص إلى مجموعات دلالية متكافئة
الشاعر يشتغل على فكرة الإنفتاح النصي على أجناس أدبية وفنية
التجربة الشعرية هي عملية الحياة والحركة العضوية

التجربة الشعرية هي "عملية الحياة والحركة العضوية" كما يقول هربرت ريد، والتي يخوض غمارها المنتج (الشاعر) لتحقيق عوالمه النصية وخلق رؤيته الابداعية التي هي القدرة على التعبير والإبتكار والتصوير الذي يؤسس لفضاءات عوالمه الحالمة، المستفزة لذاكرة المستهلك (المتلقي) ويفتح باب التأويل، كونه وجوداً مقترناً بالفكر المكتنز بالدلالات الذهنية المتصارعة والواقع من أجل خلق عوالم تتناغم فيها الرؤى وتتفاعل مع أنساق مكتظة بالحيوية والدينامية.
والشاعر عدنان الفضلي في مجموعته الشعرية "بريد الفتى السومري" الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، يتخطى فيها الحسّيات إلى أفق الرؤيا بمخاطبة الوجود والأشياء بلغة الفكر المتشظي، باعتماد النص المفتوح والقصير والقصير جداً (الومضي) إبتداء من العنوان، النص الموازي والعلامة السيميائية الدالة التي اعتلت لوحة تجريدية اسهمت بتضامنها معه في الكشف عن المتن الشعري:
في الطريق إلى الناصرية
 ستجد آثار البساطيل على طول الطريق
 هي ليست للجنرالات
 إنها آثار (المكاريد) السومريين
 الذين لا يجد المخنثون حطبا لنيران حروبهم المتناسلة بغيرهم
وأينما تلتفت في ذلك الطريق..
ستشم رائحة شواء
تنبعث من قلوب الأمهات والعشيقات
 كون نارهنّ أزلية متقدة بوقود الفقد
...
 في الطريق إلى الناصرية ..
يصادفك المخادعون والمخدوعون
 يرفعون رايات المظلومية
 ويهتفون للغرباء (بالروح بالدم نفديك ياهو الجان). (ص8 ـ ص9)
فالشاعر يشتغل على فكرة الإنفتاح النصي على أجناس أدبية وفنية لمد فضائه بما يمنحه الحرية وتجاوز القيود المألوفة والإنغلاق على فضاء الشاعرية من أجل استيعاب هموم الإنسان المعاصر ومعاناته بأسلوب سردي شاعري، منح النص اتساع الرؤى وتعدد أحداثه مع تحرر من التأطير الزمكاني باعتماد لغة يومية خالقة لصورها ودلالاتها المتفردة والتي بتمازجها يحقق المنتج (الشاعر) حركية النص وفعله المؤثر المنبثق من ذاته الشاعرة التي تجمع ما بين الكتابة السردية والشعرية بتفاعل وجداني ملتحم بصيرورة الحدث وتداعياته ومعطيات الواقع وافرازاته.
فالنص يقوم على مجموعة من العتبات التي تقدم نفسها بفقرات تقتسم النص إلى مجموعات دلالية متكافئة وهي تسبح في بنيتين أساسيتين: أولهما البنية اللغوية، وثانيهما البنية المعرفية. فضلاً عن تجلي إبداع الشاعر في توظيف التناص شعرياً من أجل خلق انفعال جمالي يعمل على تحريك الخزانة الفكرية للمتلقي وتوليد الأفكار والدلالات. إضافة الى اعتماده التراث المتمثل باللهجة العامية والأغنية الشعبية (مكاريد والنذور وشعر البنات ولو رايد عشرتي وياك حجي الجذب لا تطريه..) بتقنية السرد الشعري لبناء نص مؤثث بالتداعيات التي يضخها زمن خارج الذاكرة، والمتميز بتراكم الصفات التي أسهمت في الكشف عن توتر نفسي، فضلاً عن اعتماده تقنيات فنية وأسلوبية منها التنقيط الدال على الحذف والذي يستدعي المستهلك (المتلقي) للإسهام في بناء النص وملء فراغاته السوداوية. وهناك تقانة التكرار الجملي الدال على التوكيد الذي شكل لازمة افتتاحية على امتداد النص المقطعي المرتبط بوحدة موضوعية. إضافة إلى إضفائه موسقة نغمية على جسده فاعلة ومتفاعلة وامتداداته الشعرية:  

Poetry
مغامرة شعرية 

كي أستمر
سأعلق شتائي على جدار أشوس
وأترك للنهارات حق النعاس
وبعد إغفاءة الزنابق..
سأذهب إلى جسد متثائب
 أوقظه بقبلة ممغنطة
 فالاستمرار عندي..
أن ألج المخادع السومرية
بحثاً عن زهرة سوداء
تشبه في انتفاضتها..
نهداً يخال يومه ساخناً في الشتاء. (ص15 ـ ص16).
فالنص الشعري بصفته لغة الخيال الذي يبعث الروح في العدم. اشتغال لغوي تتساوق في جمله العناصر المعبرة عن الجمال وكوامن الوجد من أجل تشكيل واقع وتأسيس ذاكرة. من خلال تداخل الألفاظ والتراكيب وتفســير بعضها البعض، لأنها تقــوم على دائرة نصية مغلقة تعبر عن فكرة مركزية تدور حولها الأحداث، مع توظيف سايكولوجية التواصل الشعري لينتج صوره التي تمزج الحلمية بالخيالية في سياق حسي مقترن بالحياة بكل موجوداتها عبر ذهنية متحفزة، فيقدم رؤية شعرية تلخص الواقع وأشيائه ببوح وجداني ونزوع انساني متمثل في السلوك.
فالشاعر يخوض مغامرة شعرية يضمن نتائجها المؤثرة بإتقانه لتكوينه الداخلي والخارجي مع قدرة في توظيف الطاقة اللغوية فيكشف عن قدرته في الترميز وشحن ألفاظه بدلالات غير مالوفة من أجل التحليق في أفق الصورة الشعرية عبر بنية نصية تعتمد التكثيف والإيحاء:
من ثقب في جدار عتيق
 يطلق التأريخ أغنية اليتامى المتجددين
 يذكّر الأزقة بخطوات الصبية الحفاة
 الذين صاروا فيما بعد..
حطباً لحفلات الشواء المجانية
التي تسمى سهوا (الحروب)
....
 لم تكن قصتهم مكتملة
 بالقدر الذي يسمح لنا بأن نصفق للجنود
 الذين تركوا خلفهم يتاماهم
 من أجل أن يكتب التاريخ ..
على ذات الجدار العتيق
 المجد للجنرالات. (ص57 ـ ص58),
فالشاعر يعتمد الإيجاز والتكثيف  مع اقتصاد لغوي في إيصال فكرته الشعــرية، فضــلاً عن توظيــفه الفعــل الدرامي الذي يأخــذ أبعاداً (نفسية واجتماعية..) تؤطر النص المزاوج بين لغة الجسد والروح كي يمنح متلقيه نشوة الأداء الشعري الذي يمسك بانزياحات المعاني التي ينتجها وهو يخوض في غمار التجربة التي تسبح ما بين عوالم الذات والموضوع.
وبذلك قدم الشاعر نصوصاً تتسم بالوعي الذي يعني الموقف الفكري الملتصق بالإنسان والذي ينم عن تجربة محكمة في معانيها وهي تتكئ على المجاز والخيال مع امتلاكها خزيناً معرفياً نفسيا محققاً لسايكولوجية التواصل الشعري (بوصفه خطاباً غنياً بالدلالة) ليحقق الإمتاع والإقناع في نصه الجامع بين الموقف الشعري الذي هو امتداد مدروس لمعطيات الزمن والإيحاء النفسي من خلال توظيفه المفردة المتوهجة ذات الدلالة الجمالية التعبيرية التي تمزج ما بين الحسي والتخييلي، وخلق موقف يطرح فكراً باستمداد شعريته من الذاكرة والمشاهدة التي تحقق رؤية متفاعلة والأنا الجمعي الاخر باقترابها من اليومي وتفصيلات الواقع بكل تناقضاته وتواتراته.