بعد أربعين عامًا.. هل أدان المرشد نظامه؟

خامنئي يعرف أن المخاطَبين في بيانه ليسوا من الأجيال التي شاركت في الثورة أو شهدت أحداثها، لذا حرص في بيانه على أن يوجه قسمًا كبيرًا للتنويه بالتجربة التي يُعَدّ هو وحواريُّوه أوصياء عليها داعيًا الشباب إلى أخذ الحقيقة منه ومن وحي التجربة التي عاشها.

بقلم: محمود حمدي أبو القاسم

في بيان بمناسبة مرور أربعين عامًا على الثورة، وجه المرشد الإيراني علي خامنئي رسالته إلى الشباب، كأنه يشعر بأن الأجل قد دنا والساعة قد حانت، ويبدو من مضمون الرسالة التي حملها البيان للشباب أن قلقًا وخوفًا ما يستحوذان عليه، إذ توحي كلمات بيانه بأنها وصية يدعوهم فيها إلى الحفاظ على الثورة الإسلامية وشعاراتها وقيمها ونظامها.

يعرف خامنئي أن المخاطَبين في بيانه ليسوا من الأجيال التي شاركت في الثورة أو شهدت أحداثها، لذا حرص في بيانه على أن يوجه قسمًا كبيرًا للتنويه بالتجربة التي يُعَدّ هو وحواريُّوه أوصياء عليها، داعيًا الشباب إلى أخذ الحقيقة منه ومن وحي التجربة التي عاشها، محذِّرًا إياهم من الالتفات إلى أي حقيقة أخري تبثها الأطراف المغرضة في الداخل والخارج. عدّد خامنئي في بيانه إنجازات الثورة بالجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، متغافلًا عن الوضع الراهن الذي تعيشه إيران، كأنه يتحدث عن إيران أخرى غير تلك التي يعاني فيها الإيرانيون من وطأة الفقر والتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتعاني فيها الدولة برمتها من الأزمات والاضطرابات الداخلية، حتى إن الرئيس حسن روحاني قال إن «الأزمة الراهنة لم تمر بها إيران خلال أربعة عقود».

لم يلتفت خامنئي إلى الأوضاع الراهنة في بيانه، التي تطال شرعية قيادته ذاتها، إذ يغلي المجتمع الإيراني من وطأة الغلاء وتدنِّي مستوى المعيشة وارتفاع مستويات البطالة بين الشباب وتراجع المؤشرات الاقتصادية، وهي الأوضاع التي دفعت فئات كثيرة إلى الخروج للتعبير عن غضبها في صور مختلفة من الاحتجاج والاعتراض، لا على الحكومة وسياساتها وأدائها وحسب، ولكن على ما آلت إليه أوضاع إيران والإيرانيين تحت حكم الفقهاء خلال أربعين عامًا.

مع هذا لم يتمكن المرشد من إخفاء عدد من الحقائق، كان أهمها الإشارة إلى عدم نجاح النظام في تحقيق العدالة الاجتماعية، إذ قال «ينبغي أن لا يُفهَم من عدم رضائي عن فاعلية العدالة في البلاد… عدم حصول شيءٍ من أجل تكريس العدالة».

فعلى الرغم من كل الادعاءات حول إنجازات الثورة، لم يتمكن خامنئي من أن يدّعي أن نظامه حقّق المرجوّ على صعيد العدالة الاجتماعية، فادّعاء كهذا ما كان ليصمد أمام الواقع الكارثي الذي يعيشه المجتمع الإيراني على هذا الصعيد. أليست شرعية دولة 1979 ونظام وليّ الفقيه متراجعة وتواجه مأزقًا صعبًا بسبب غياب العدالة التي تجسدها طوابير نساء إيران للحصول على اللحوم، واعتصامات واحتجاجات الفئات الاجتماعية المختلفة دفاعًا عن الحدود الدنيا للأجور، وهي المشاهد المتكررة يوميًّا في المدن الإيرانية كافة، بما يدحض أي ادّعاء عن النجاح والاقتدار الذي يصر المرشد خامنئي على تكراره في بيانه؟

اعترف خامنئي ضمنًا بأن الثورة نجحت في عدم تحقيق أهمّ أهدافها، ولِمَ لا والعدالة هي القيمة العليا في نظرية ولاية الفقيه، وشرط أساسي في تولِّي منصب الولاية إلى جانب العلم، كما قال مؤسس النظرية الخميني؟ من يتحمل هذا الفشل؟ وكيف يمكن للأجيال التي يخاطبها خامنئي أن تثق بتحقيق هذا النظام في المستقبل بعدما عجز نظام ولاية الفقيه في عهد المؤسس وخليفته في إنجاز هذه المهمة على مدى أربعين عامًا؟

لقد أدان خامنئي نفسه في البيان مرة أخرى عندما أشار إلى أن المشكلات الكبرى التي تعاني منها إيران كانت بسبب إهمال خطّ الثورة وشعاراتها في فترات مختلفة خلال الأربعين عامًا، إذ قال «واعلموا أنه لو لا عدم الاهتمام بالشعارات الثورية والغفلة عن السياق الثوري في فترات من تاريخ الأربعين عامًا -وهو ما حصل للأسف وتسبب في بعض الخسائر- لكانت مكتسبات الثورة أكثر من هذا بكثير، ولكان البلد متقدمًا أكثر بكثير في طريق الوصول إلى المبادئ الكبرى، ولما كان كثير من المشكلات الموجودة اليوم».

أليس خامنئي هو الأمين على الثورة والوصيّ على النظام؟ إنه وفقًا للدستور المرجعية العليا والسلطة التي تخضع لها السلطات والمؤسسات كافة بما فيها الدستور نفسه، إنه صاحب الولاية المطلقة، وترقى قراراته إلى مستوى قواعد الشريعة، فهو راعي المصالح العامة وصاحب التأثير المعنوي والمادي الواسع داخل النظام، لهذا أليس هو المسؤول الأول والأخير عن الغفلة عن مسار الثورة وعن تطبيق شعاراتها وقيمها؟

لم يكتفِ خامنئي بإدانة نفسه، بل وجَّه في بيانه طعنة إلى النظام الذي يقوده بإشارته إلى إهمال استغلال الإمكانيات والطاقات الطبيعية والبشرية، بسبب غفلة القائمين على النظام، فقال «النقطة المهمة التي ينبغي لصناع المستقبل أن يأخذوها بعين الاعتبار هي أنهم يعيشون في بلد نادر النظير من حيث الإمكانيات والطاقات الطبيعية والبشرية، وكثير من هذه الإمكانيات بقي غير مطروق وغير مستفاد منه، أو قلّمَا استفيد منه، بسبب غفلة العاملين». والسؤال المطروح: مَن العاملون؟ ومن يمثلون؟ وبأمر من يسترشدون؟ وما الذي حال دون أن يستغلوا ثروات البلاد ويوظفوها لصالح أبناء الشعب الإيراني؟ أليس المسؤول الأول والأخير عن فشل كهذا هو النظام الذي يقوده المرشد؟ أليس هذا اعترافًا آخَر بمدى ضعف النظام وعدم كفاءته!

إن خامنئي يدعو الشباب إلى الأمل والاعتقاد السائد أن لا تبث رسائل الأمل إلا إذ كان الإحباط شائعًا واليأس متفشيًا، فإن كان صحيحًا أن الثورة في أَوْج نجاحها كما يصور خامنئي، وأنها حققت أهدافها، فما فائدة دعوة الشباب إلى التفاؤل والتمسك بمبادئها وشعاراتها وقيمها؟ ألا يمكن ان نفهم من تلك الدعوة أن خوفًا ينتاب المرشد من أن اليأس قد تَملَّك الأجيال الجديدة التي لم تَجنِ من الثورة ثمرة، وينتابها شكّ في أهلية النظام القائم في مواجهة أسئلة المستقبل الصعبة؟ ألا يشير الواقع وشعارات المحتجين إلى مدى الرضا العام عن النظام؟ أليس تدنِّي مستوى المعيشة عاملًا مهمًّا في تأجيج حالة الغضب التي تعمّ إيران اليوم؟

من ضمن ما وصّى به خامنئي الشباب في بيانه، الاقتصاد، وهو الميدان الذي لم يقدّم فيه نظام ولاية الفقيه نموذجًا يُحتذى أو نجاحًا يُذكَر، ولم يعرف الاقتصاد استقرارًا على مدى أربعين عامًا، بل كان متروكًا لتجارب المسؤولين وخياراتهم الشعبوية بعيدًا عن التخطيط. مع هذا لا يزال خامنئي يوصي الشباب بمفهومه الشائع عن اقتصاد المقاومة، الذي لم يورِّثْ إيران وشعبها إلا الفقر والأزمات الاجتماعية والسياسية المتوالية رغم أنها بلد غني بالثروات.

أخيرًا يوصي خامنئي الشباب بمواجهة الفساد، بعد أربعين عامًا من الحكم يوصي رأس النظام بالقضاء على الفساد، والسؤال البديهي: أين كنت وأين كان نظامك خلال هذه السنوات الطوال في حين تبلغ معدَّلات الفساد درجات غير مسبوقة، وتتورط أقطاب النظام نفسه وقياداته السياسية والدينية في فساد لا محدود، وتشكل شبكة من المحسوبية العائلية والزبائنية السياسية لوبيهات تهيمن على صناعة القرار وعلى مصادر الثروة؟ هل كانت المحاكم الاستثنائية والثورية من أجل مواجهة المعارضين وحسب؟ لماذا لم يُفَعَّل القانون خلال كل تلك المرحلة من أجل مواجهة هذه الظاهرة التي تدحض الادعاءات التي حواها البيان بأن نظام ولاية الفقيه اختلف كثيرًا عن النظام الذي سبقه؟

إن بيان خامنئي بعد أربعين عامًا من التجربة لا يعكس في حقيقته انتصارًا يدعو قائدًا إلى الزهو، ولا يُفهَم منه وجود إنجاز يدعو إلى الفخر، فما يحمله البيان من تحديات وادعاءات يبين أن بين الواقع وما كان مأمولًا فجوة واسعة، كما أن الرسائل التي يحملها البيان في حقيقتها تعكس قلقًا لدى قمة السلطة على ولاية الفقيه ومستقبل النظام الإيراني، ويبدو أن الأوضاع الداخلية تقلق خامنئي إلى درجة بعيدة. أما توجيه الرسالة إلى الشباب فيحمل دلالات عديدة أهمها الخوف من الأجيال الجديدة، لا سيما في ظلّ الحراك الذي يشهده الشارع الإيراني، ومشاركة الشباب فيه لا سيما الطلبة، إلى جانب تطلعات الأجيال الجديدة ونظرتها إلى المستقبل، وتزايد معدَّلات تسييسهم في ظل الثورة التكنولوجية والاحتكاك الواسع بالعالم بعيدًا عن توجيهات النظام الآيديولوجية وأدواته التوعوية. لم يوجه خامنئي خطابه إلى الحرس الثوري القائم على تنفيذ مشروع الثورة في الداخل أو الخارج، ولا إلى رجال الدين الذين يمثِّلون نواة صلبة للنظام، كما لم يوجه خطابه إلى مؤسسات الحكم، بل وجَّه رسالته إلى الكتلة الحرجة من الشباب الذين يمثِّلون قرابة 60% من شعب إيران، تلك الكتلة التي يبدو أنها تتطلع إلى المستقبل دون وصاية رجال الدين وفي ظل نظام أكثر فاعلية وكفاءة.

عن المعهد الدولي للدراسات والبحوث الإيرانية