بعد خامنئي.. أحد التابعين لولاية الفقيه خارج شرط الأعلمية

من المتوقع أن تتمّ عملية ترميز إعلامي وجماهيري وصناعةِ أعلميَّة وفارق كبير بين الأعلميَّة وصناعتها تمامًا كما حدث مع خامنئي بعد وفاة الخميني لكنها ستكون أسهل إذ إنّ خامنئي كان بمرتبة حجة الإسلام مما صعّب المهمة على النظام في ذلك الوقت.

بقلم: محمد السيد الصَّياد

السؤال الذي يُطرح دائمًا بين المهتمّين بالشأن الإيراني، ماذا بعد خامنئي؟ هل يمكن للنظام الإيراني أن يُصدّر مرجعية من خارج المراجع المحسوبين عليه وفقًا لنظرية الأعلم؟ أم أن ضمان الولاء للنظام وخط الإمام هو المحدّد الرئيسي في عملية الاختيار؟

إذا كان النظام قد قفز على شروط النظريتين -الأعلم وولاية الفقيه- بعيد وفاة الخميني، ووجد التبريرات المختلفة لتمرير عملية الاختيار، فمن باب أولى تمرير نفس السيناريو بعد وفاة خامنئي، إذ ليس من مصلحة النخبة الحاكمة في إيران إدخال أي مرجعية دينية مستقلة عن سياسات النظام/خط الإمام، لأسباب عديدة. فخليفة خامنئي لن يكون إلا من جناح الثورة والمحسوبين عليها. قد تحدث توافقات بين المؤسسة الدينية والحرس الثوري -بصفته المؤسسة التي تحتكر القوة والسلاح- بشأن خليفة خامنئي، وقد تحدث صفقات ما، لكن الأمر المؤكد أنّ خليفة خامنئي سيكون أحد رجال الدين التابعين لنظرية ولاية الفقيه والمعدودين في خندق خطّ الإمام. وليس من المتوقع بأي حال من الأحوال أنْ يكون هو الأعلم وفقًا لنظرية الأعلميَّة، لكنه أيضًا من المرجح أن يكون في مرتبة آية الله وليس حجة الإسلام.

من المتوقع أن تتمّ عملية ترميز إعلامي وجماهيري، وصناعةِ أعلميَّة، وفارق كبير بين الأعلميَّة وصناعتها، تمامًا كما حدث مع خامنئي بعد وفاة الخميني لكنها ستكون أسهل، إذ إنّ خامنئي كان بمرتبة حجة الإسلام مما صعّب المهمة على النظام في ذلك الوقت. أي إنّ النظام سوف يتمسك ظاهريًّا بالتقليدية الشيعية التي ينطلق من وعائها، ثمّ يقفز عليها عمليًّا بتولية من تريده النخبة السياسية والعسكرية والدينية في سدّة القيادة. وقلنا إنّ من المرجح لجوء النظام إلى مرتبة دينية عليا محسوبة عليه، بمعنى أنه سيلجأ إلى أحد «آيات الله» وليس إلى مرتبة أدنى «حجة الإسلام» كما فعل مع خامنئي، وذلك لأنّ مناخ التشيع الآن وحضور إيران الواسع في الإقليم يُحتم على النظام ذلك كي لا يفقد حواضن شيعية في وقت يسعى فيه لنجاح المشروع الجيوبوليتيكي القائم عليه، أو يُواجَه بتشكيك فقهي في الأوساط الشيعية هو في غنى عنه الآن. كذلك فإنّ اللحظة الراهنة غير اللحظة التي تولى فيها خامنئي، فاللحظة الراهنة ستكون أشبه بتسليم القيادة لرجال الجيل الثاني، أو الطبقة الثانية من الجيل الأول، كآية الله الشاهرودي وطبقته مثلًا، بالإضافة إلى أنّ موقع تلامذة الخميني بعد وفاته في الحوزة لم تكن لتؤهلهم ليتبوأ أحدهم موقع المرجعية العليا لصغر أعمارهم مقارنة بغيرهم في ذلك الوقت، أما الآن فمعظمهم حصل على مرتبة «آية الله» وكَبُر في السنّ بما يؤهله لتولي القيادة.

نجد مثال تولية علي خامنئي دليلًا على صوابية هذا الطرح، إذ إنّ تعديلات الدستور سنة 1989م خلت من أي إشارة إلى مجلس القيادة الذي كان موجودًا في دستور 1979م، وخففت من الشروط الواجب توفرها في القائد الأعلى كاجتماع أغلب الجماهير عليه ورضاها به، وبعبارة دستور 1979م: «تكون ولاية الأمر وإمامة الأمّة في جمهورية إيران الإسلامية على عاتق الفقيه العادل التقي العارف بشؤون عصره، الشجاع، المدير والمدبّر، الذي تعتبره أكثرية الجماهير قائدًا لها، وترضاه، وعندما لا يحرز أي فقيه تلك الأكثرية فيتولى القيادة مجلس قيادة يتشكل من الفقهاء الحائزين على الشرط المذكور آنفًا”. فاكتفى دستور 1989م بعبارة: «في زمن غيبة الإمام المهدي تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية بيد الفقيه العادل المتقي العالم بأمور زمانه، الشجاع الكفء في الإدارة والتدبير»، فنُحي الجمهور دستوريًّا، والجمهور هو المخوّل باختيار المرجع الأعلى في الفقه الشيعي حسب العرف المتداول والموروث، إذ إنّ الكشف عن الأقدرية لا يكون إلا بكثرة المقلدين، وحصص الأموال، بعبارة أدقّ كما قلنا إن النظام الإيراني اعتمد الأعلميَّة نظريًّا، وقفز عليها سياسيًّا وواقعيًّا.

التناقض الآخر أنّ دستور 1979م اشترط أعلميَّة القائد بمقتضى الدلالة، ومع ذلك لم يُخوّل له حق الانفراد بالحكم والرأي النافذ على بقية السلطات التنفيذية والتشريعية، لكن دستور 1989م ورغم أنه خفف من شروط القائد وشروط أعلميَّته عبر إلغاء رضاء الجماهير ومقبولية أكثرية المؤمنين، فقد أعطاه من الصلاحيات ما لم تُعطَ لمن توفرت فيه الشروط في دستور 1979م، فنقل دور القائد من الإشراف على السلطات الثلاث إلى التنفيذ، فصار هو المنسق الوحيد بين هذه السلطات بعد إلغاء دور رئيس الجمهورية الذي كان منسقًا أساسيًّا بين تلك السلطات وفقًا لدستور 1979م. وحدث نفس التناقض في عدد من المواد الأخرى. والمفترض أن يتم تقليص صلاحيات القائد ما دام أنه ليس الأعلم، لا أن يتم العكس.

هذه التعديلات ضربت شرعية الثورة والحكم ونظرية ولاية الفقيه من أساسها، إذ إنّ بعد وفاة الخميني -وفقًا للمادة 107 من دستور 1989م- الذي هو المرجع المعظّم والقائد الكبير للثورة الإسلامية العالمية ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية، الذي اعترفت الأكثرية الساحقة من الناس بمرجعيته وقيادته، توكل مهمة تعيين القائد إلى الخبراء المنتخبين من الجامعين للشرائط المذكورة في المادتين الخامسة والتاسعة بعد المئة، ومتى ما شخصوا فردًا منه باعتباره الأعلم بالأحكام والموضوعات الفقهية، أو المسائل السياسية والاجتماعية، أو حيازته تأييد الرأي العام، أو تمتعه بشكل بارز بإحدى الصفات المذكورة في المادة التاسعة بعد المئة، انتخبوه للقيادة، وإلا فإنهم ينتخبون أحدهم، ويعلنونه قائدًا. ويتمتع القائد المنتخب بولاية الأمر ويتحمل كل المسؤوليات الناشئة عن ذلك.

كان أصل المادة في دستور 1979م: «إذا اختارت الأكثرية الساحقة للجماهير أحد الفقهاء الحائزين على الشروط المذكورة في المادة الخامسة من هذا الدستور، مرجعًا وقائدًا لها، كما حصل بالنسبة إلى مرجع التقليد الكبير وقائد الثورة آية الله العظمى الإمام الخميني، عندها يتولى هذا القائد ولاية الأمر وجميع المسؤوليات الناشئة عنها. وإلا فإن الخبراء الذين انتخبهم الشعب يتباحثون حول كل من يصلح للمرجعية والقيادة ويتشاورون في ما بينهم، فإذا وجدوا مرجعًا يمتلك مميزات بارزة خاصة يقدمونه إلى الناس كقائد، وإلا فيختارون ثلاثة أو خمسة من المراجع الحائزين على شروط القيادة يقدمونهم إلى الناس كأعضاء في مجلس القيادة».

نلاحظ أن دستور 1989 ألغى التحاكم إلى الجماهير بدايةً بعد أن كان البدء به في دستور 79، وجعل البداية باختيار مجلس الخبراء. وكذلك ألغى دستور 89 فكرة مجلس القيادة أو وجود أكثر من شخص في سدة القيادة، وحصرها في شخص واحد حتى ولو لم يكن مؤهلًا أو مستوفيًا للشروط، وذلك لسدّ الباب أمام كلّ رجال الدين والمرجعيات الأخرى التي لا تدور في فلك النظام السياسي. الأمر اللافت أيضًا أنّ شرعية الخميني اعتمدت على الجماهيرية الطاغية كما نصّ الدستور وتفاخر بها، وهو نفس الدستور الذي ألغى اعتبار الجماهيرية والأكثرية ورضا الأمة لصالح النصب، أي تمّت دسترة النصب قبال إلغاء الاختيار والانتخاب.

عن المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
ملخص بحث: نظرية الأعلميَّة في الفكر الشيعي وأزمة اختيار الولي الفقيه