بلاغة توصيف الالتباس في شعر عمار عبدالخالق

ثمة بلاغة ما بعد البلاغة الجديدة بلاغة توصيفية هي، وليست مفاهيمية، أكدتها لنا جميع قصائد عمار عبدالخالق في ديوانه "وليمة الأقدام".
الغرض الشعري الجديد أهله عمار عبدالخالق بجدارة نوعية وجرأة أدبية
نسق القصيدة شهد تصعيدا تدريجيا فما بعد المستهل

نسب التباس المعنى
المعنى الشعري يتفرد في صيغ دلالية استثنائية, وانتقل المعنى الشعرية من مراحل شعرية كان أكثرها تأثيرا عليه الرمزية والرومانسية وميتافيزيقا مع بعد الحداثة, وتلك مرحلة لعبت دورا في تطوير وحرف المعنى عن بعده العام، وتلك المراحل كسبت معنى مختلفا أثارت فيه حتى اللغة الشعرية, لكن ميتافيزيقا ما بعد الحداثة لم تزح الضفة عن المعنى فقط, بل حتى وفق ما يرى بارت أن المعنى قد ثلم، وهذا يعني الميتافيزيقا قد استثمرت ذلك, وفعلا تجد شعر ما بعد الحداثة إذا بدأ من ضفة عامة فسيسر للتلقي التواصل معه، وإذا بدأ من الالتباس أثار التأويل، وجعل المعنى أشد رمزية وأكثر عمقا وتأهيلا وتطويرا للبعد الدلالي. 
ولدينا مجموعة عمار عبد الخالق "وليمة الأقدام" حيث صيغ الكتابة الشعرية راعت صيغ المعنى بتعددها، وبتفسيراتها العامة والخاصة, والتي تجعل الشعر أرخبيل جمل وصور شعرية، أو تجعلها نجمة وحيدة وغريبة نحتار في تفسيرها، ففي قصيدة "سيرة ذاتية للجهاز العظمي" والتي واجهتنا عتبة مثيرة في مضمونها ومضمون مظهرها، لكن المستهل الشعري بدأ من ضفة تكسب التلقي، وبدأت بفعل لكن ليس في صيغة الكلام, بل في صيغة شعرية تصاعد إيقاعها.
حين أذهب بعيدا عن الغرفة
سيبقى الذباب
يستيقظ صوتي في كل وجبة طعام
لا مانع من النمل
أن يقف بجانبه قليلا

تجربة جديدة عميقة المضامين الشعرية, حررت البلاغة من بيان وحس الماضي الرتيبة الجامدة, وأحيت في البلاغة نفس التوصيف الحر دون تكلف

شهد نسق القصيدة تصعيدا تدريجيا فما بعد المستهل وجهنا جمل شعرية تحتمل فنيا أكثر من تفسير، فهي نصوص بحد ذاتها من جهة، ومن أخرى هي منصوصات تفرد من جهة معناها واتخذ بعدا خاصا، ومن جهة ثالثة هناك توافق مضموني مشترك بين تلك الجمل الشعرية وفي الصور الشعرية العلامة تتجاوز السيمياء البصرية إلى السيمياء الموضوعية، وفي قصيدة "مائدة السيادة" هناك تحول في لغة الشعر من مضمون إلى آخر.
مذعور جالس في دائرة الطاولة
يغني على استقامة الخط
ومتحف النهدينِ في غرفةِ المروحة    
يشاهد نشرة الأخبار المرتوية 
بالقادةِ والحليب
تحول نسق الكتابة من مضمون شعري هنا إلى مرحلة ما بعد الرمزية الجديدة, والتي تعيد صياغة الرمز الشعري من مستوى بلاغي شعريا إلى مستوى يحيلنا إلى حساسية اللغة الشعرية، حيث من التباس إلى آخر.
تمكنت لغة الشعر لسانيا من تجاوز تفسير اليوم والذاتي إلى عكس مضامين شعرية في كيانات منصوصات فيها جانب أفق مغلق وآخر مفتوح، أي ليس المهم البعد البياني بل البعد السيميائي، وفي قصيدة "عارياً في المصحات ميري" التي عتبتها إحالتنا إلى تناص مع أديب راحل، لكن المتن ناور كثيرا بالمعنى:
لا هامش يترنح مبتسما بحديقة رأس السنة  
ولا كابوس يحرق نيران المباشرة  
كومة الشتلات في العراء تعتصم  
عن حبر الوريد  
أكثر قذارة أن ترى وجهك في نهاية  
نكته المقاهي  
تفسير الشعر المعاصر لم يعد يناجي أو يترجى أو يوحي فتلك المقومات قد استهلكت كثيرا، والشعر يهدف إلى فرض فلسفة جديدة للمعنى في روح المعاصرة, وخلق جودة في تفسير المعنى شعريا, ففي قصيدة "دعوة لتنظيف الحكمة في المتحف" اللغة الشعرية لا تهتم إلا بالتوصيفات الغنية بالإثارة.
ينتظر السديم
موت الفلاح في اللغة
هذا البياض بوجه
الجغرافيا سينتهي
كأسماء الطغاة سيخلد 
غادرت تقنية الشعر ذلك التراتب التقليدي في تسلسل المعاني في الأفق العام, بل أصبح المعنى الذي يملك جدارة ليمحو سابقه, وليمركز مضمونه العلاماتي في طاقة دلالية فاعلة ديناميكيا, ولا يهم هنا إلا التوصيف الجمالي وبأي صيغة، والنص أصبح مثل لوحة تجريدية تحتاج إلى حس مقابل وليس قراءة أفقية.
جدوى قلب البلاغة 
مرت دهور طوال وبلاغة الشعر بيانية, وتهتم بتجميل اللغة الشعرية وكسبها حسن البيان, لكن ذلك رغم أنه قد أصبح سياقا شعريا, تقدمت نحوه بلاغة مختلفة, بدأ في البداية كتجريب نسبي في ظروف الحداثة, ومن طبيعة الحداثة أن تراهن على السياقات فهي أساس نظامها, وبقت الأصول الشعرية تمتد في كل عصر, حتى أصبح الشعر أشبه بكيان تزويقه تراثي وهو بروح معاصرة, حتى صارت منظومة التلقي الجديدة تجد نفسها أمام ماضي سحيق, وسمع الصوت الشجي لا يفي بالغرض إذا لم يقل معنى جديدا يثير المشاعر تجاهه, وروح المعاصرة تستوجب تأهيل المعنى الشعري, وليس في اتجاه واحد وأفق معين, بل على الشعر اكتشاف آفاق جديدة ليبث فيها معناه، وقد تمكن عمار عبدالخالق من تأهيل المعنى الشعري في ظروف ما بعد الحداثة التي تتيح حتى استغلال القبح جمالي كما فعلت السينما، وبدأ قلب الحداثة لإنتاج بديلة منذ العتبات النصية, فهي علامة جديرة في تصعيد الفن البلاغي شعرا، فمثلا العتبة النصية "موناليزا في جعبة الشعب" والتي واكبها مستهل باشتغال فني أتاح له التطرف الجمالي حتى، ولكن تحقيق الغرض الشعري: 

Poetry
عمار عبدالخالق

آدم  
 يُطفِئ ................... وجه الكون  
و ... 
                          حواء  
تشعلُ  
إنارة الثياب ..... خرجنا خلسةً 
من نشيد توابل إلى "حلبة الأبقار المتحركة..!
اتصف شعر ما بعد الحداثة بقلب الحداثة القديمة وفق المنهج التفكيكي, والذي أعلن فيه دريدا عن موت المعنى العام, والنص الشعري الذي يكتبه عمار عبدالخالق بطريقة أشبه بالشطرنجية, حيث بقى المعنى الأجد الأكثر فاعلية, وأي معنى هو من جهة ديناميكي ومن آخر ثلم الجانب العام فيه، لكن بروح وطاقة يمكنها إنتاج علامة تلو أخرى, أي ترادف مرت به الصور الشعرية ليس ذلك الذي اعتادت عليه في أفق واحد. 
وفي قصيدة "عزاء في مقهى التعددية" تتحول البلاغة المنتجة تفكيكيا من أفق سيوسولوجي إلى أفق أدبي، وتخترج جدلية حساسة في أفقنا الأدبي، لكن المضامين الجمالية مرت بتصعيد استثنائي.
التنويم المغناطيسي عفريت الرواية العربية..
لا صوت في المدينة  
سوى أصواتهم في (باب الخان) 
تنحني أعمارنا بين الأقواس  
نموت في القصيدة
إذا اعتبر أحد أمثلة كلاسيكا الشعر هذا تجريبا متطرفا, ففي التحليل النقدي لا نعارض تلك الفكرة إجمالا، بل نطرح لها فكرة أصيلة اهتم بها أرسطو كثيرا بأن الشعر فن وهو توأم الفن البصري المعاصر تشكيليا على وجه الخصوص، وصيغة أدب أصبحت ثانوية ما دام لغة الشعر هي متعدية فلن تحافظ على أفقها العام, والنصوص الشعرية بجدارة نوعية في تحقيق حرية اللغة, فقصيدة "بيان 56" التي لوحت لنا عتبتها برقم حساس:
في الغرفةِ الأولى
نمشي وهذه المرةُ دونَ ساقينِ
بين حافةِ اللغةِ ندماً
الشعر الجدير يبتكر في جمل إن اختلفت أو اتفقت تفي بالغرض الشعري معنى حيويا, وهذ الذي ساد لغة القصائد, واختلاف معنى أولي عن آخر هو عكس الفهم التقليدي الكلاسيكي, فالغرض الشعري الجديد أهله عمار عبدالخالق بجدارة نوعية وجرأة أدبية، فقصيدة " مقصلة في فم الحرية" دلت على ذلك:
في آخر خريطة 
سيقان الديمقراطية قرابين للعمال 
ثمة بركان اقتصادي نائم بالصحن 
كأنه في ماكينة أشعة كاما ذات الحنفية الحمراء 
والمعدة العريضة للجرم السماوي
ثمة بلاغة ما بعد البلاغة الجديدة بلاغة توصيفية هي، وليست مفاهيمية، أكدتها لنا جميع قصائد عمار عبدالخالق, والتي قدمت لنا تجربة جديدة عميقة المضامين الشعرية, وقد حررت البلاغة من بيان وحس الماضي الرتيبة الجامدة, وأحيت في البلاغة نفس التوصيف الحر دون تكلف.