بنزرت تحتفي بالملتقى الدولي الثالث للرواية والسيرة الذاتية

الكتاب الأحرار في بنزرت التونسية يحتفون بالقضية الفلسطينية وطلاب المدارس الإعدادية يتحلقون حول صاحب "تفاح المجانين"
رواية يحيى يخلف تعكس أحلامنا كأطفال في البحث عن سر القوة، وكيف نمتلك شجاعة الأسود والنمور لاستعادة وطننا الذي احتله الصهاينة
رشا صالح تقارن بين عملين فرنسي ومصري بينهما بعض القواسم المشتركة من خلال دراستها "التماس بين الذات والهوية"
شريف مليكة: الكتابة لا يمكن أن تصل إلى قارئ ما لم تكن تتحلى بالصدق

مصطفى عبدالله

نجحت "رابطة الكتاب التونسيين الأحرار" فرع بنزرت، في أن تحتفي بالقضية الفلسطينية والإبداع الفلسطيني عبر الدورة الثالثة من ملتقاها الدولي للرواية والسيرة الذاتية الذي عقد في الفترة من: 12 إلى 14 إبريل/ نيسان الحالي في لؤلؤة المتوسط.. بنزرت التي استقبلت الفلسطينيين بعد خروجهم من لبنان عام 1982.
فقد استضافت الروائي الفلسطيني يحيى يخلف، المقررة إحدى رواياته على طلاب المدارس الإعدادية في تونس، وكذلك استضافت الكاتبة الفلسطينية بشرى أبو شرار التي قدمت شهادة حول إبداعها، وقد كان جليًا اعتناء "بنت البحر" حفيظة قارة بيبان، مؤسسة فرع هذه الرابطة، بكل ما هو فلسطيني سواء في كتابتها أو في اختيارها كاتبة فلسطينية لتسلمها شهادة تقديرها، أو في تأكيدها على أن بنزرت هي التي خرجت لاستقبال الفلسطينيين حين لاذوا ببلادها عام 1982.
وكانت الناقدة والباحثة مُنية قارة بيبان، كاتب عام فرع الرابطة في بنزرت، قد بذلت جهدًا مضنيًا لتلتئم جلسات هذا الملتقى الدولى على أفضل وجه؛ فكانت تدير الجلسات في الوقت ذاته الذي تتابع فيه حل المشكلات التي يتعرض لها بعض الضيوف مثل إصدار تذكرة طائرة جديدة لوزير الثقافة الفلسطيني الأسبق الروائي يحيى يخلف الذي فاتته الطائرة في مطار روما وهو في طريقه إلى تونس، ثم الذهاب إليه في العاصمة لاصطحابه إلى بنزرت التي تبعد نحو 60 كيلومترًا عن العاصمة، لاسيما وأن إمكانات الملتقى محدودة جدًا.
وبدورهم طلاب المدارس الإعدادية في بنزرت يحسنون استقبال الروائي الفلسطيني يحيى يخلف الذين عرفوه على الورق قبل أن يلتقوه، فيتحلقون حوله هم ومدرسوهم بعد أن يستمعوا إليه وهو يتلو عليهم شهادته التي يقول فيها:
غرفت من ذاكرة الطفولة روايتي "تفاح المجانين" وهي رواية المخيّم والحارة ومدارس وكالة غوث اللاجئين، وشقاوة الأولاد وعبثهم، وألعابهم وألاعيبهم من نطنطة وشعبطة، وبحث عن أسرار القوة، وجيل الآباء الفقراء والبؤساء وأحاديثهم عن البلاد المحتلة والضائعة، والخيول والحقول والأبقار التي كانت تلد عجولًا في ربيع مضى عندما كان الزمن مديدًا والحصاد وفيرًا، والحياة تمضي، والأرض تدور.
استلهمت العنوان من تلك الثمرة البرية الشرسة التي تسمى "تفاح المجانين"، وبالعامية "تفاح المجن" والتي تسبب الجنون المؤقت لمن يأكلها، وتمنحة قوّة خارقة يستطيع من خلالها أن يصرع ثورًا!

عكست الرواية أحلامنا كأطفال في البحث عن سر القوة، وكيف نمتلك شجاعة الأسود والنمور لاستعادة وطننا الذي احتله الصهاينة، وفي ذروة البحث عمد أحدنا إلى تناول تلك الثمرة اللعينة، فحوّلته إلى سفود نار، ولكنّها لم تمنحة قوة الثيران أو الأسود، وإنما حوّلته الى رماد!
لكننا فيما بعد عندما جاءنا فدائي من الفدائيين الذين جنّدتهم القوات المصرية في قطاع غزة عام 1955 هاربًا من سجون الاحتلال، جاء مثلنا مكدودًا مثخنًا بجراح الروح، فصادقناه واستمعنا إليه، وإلى ما رواه عن بطولات الفدائيين. ومنه أدركنا أن سر القوة إنما يكمن في ماسورة البندقية، ولم نكن قد شاهدنا بندقية مثل تلك التي حارب بها ذات يوم، ولم تعد تصاحبه، فرسمها لنا على الورق.
هذه الرواية خرجت من ذاكرة الطفولة، ومن شخصيات المخيم وأولاد الحارة، وحازت تقدير القراء، وثناء النقاد، ودخلت في مناهج التعليم، ولا تزال تدرس لتلاميذ المدارس في البلاد التونسية في المرحلة الإعدادية.
ويقدم الناقد والأستاذ الجامعي التونسي الدكتور محمد القاضي دراسة في روائية السيرة الذاتية بعنوان "قراءة في كتاب حمادي صمود (طريقي إلى الحرية)"، يبدأها بقوله: كثيرًا ما يتحدث الدارسون والنقاد عن العلاقة بين الرواية والسيرة الذاتية، ومنهم من ينظر في الدرجات التي تتسرب فيها العناصر السيرذاتية إلى النسيج الروائي. فيميز بين الرواية السيرذاتية والسيرة الذاتية الروائية، ومنهم من يبلغ به الأمر إلى محاولة رد العناصر التخييلية في الأعمال الروائية إلى مصادرها الواقعية. وهم في تلك المحاولات يتخذون من الرواية أساسًا ومنطلقًا.
ولكننا إذا انطلقنا من السيرة الذاتية التي تحيل على الأبعاد المرجعية بفضل ميثاقها الصريح، وجدنا أنها، وإن أوهمت بالانفصال عن الرواية، غير مبتورة الصلة بالجنس الروائي، وغير خالية من الروائية.
ونحاول في هذه المداخلة أن نقترب من هذا الإشكال لا من خلال معالجته من الناحية النظرية البحت، بل اعتمادًا على نص تونسي نال جائزة أبي القاسم الشابي سنة 2017، هو "طريقي إلى الحرية" لحمادي صمود، وفي ذهننا سؤال رئيسي هو: ما حظ هذا الكتاب من الروائية؟ وما هي حدود التماسّ بين الرواية والسيرة الذاتية بإجمال؟
وتختار الدكتورة رشا صالح الناقدة المصرية والأستاذة بجامعة حلوان أن تقارن بين عملين فرنسي ومصري بينهما بعض القواسم المشتركة من خلال دراستها "التماس بين الذات والهوية في رواية "الإنسان الأول" لألبير كامو، وسيرة رضوى عاشور الذاتية "أثقل من رضوى" إذ ترى أن "الذات" تمثل الخطوط الكبرى لرحلة الإنسان، وتتخذ شكلها الأدبي عندما تسجل في فن السيرة الذاتية على لسان صاحبها. بينما تشكل "الهوية" الانتماءات والميول والاتجاهات التي تلتف حولها جماعة ما، وتنتمى إليها هذه الذات كى تثبت من جذور وجودها.

لا يصح أن أكتب سوى عن تجربتي الشخصية وعن تفاعلي الذاتي مع شخصية أو حدث ما صادفته يومًا أو عايشته لأعوام، حتى يتأتى ذلك الصدق الذي يستشفه القارئ فيتفاعل بدوره مع الشخصيات والأحداث

وقد يتم تسجيل هذه الخصائص في شكل روائي مقنع يتخذ شكل "الرواية السير الذاتية". والعملان موضوع الدراسة ينتمى أحدهما إلى الأدب الفرنسى وهو رواية "الإنسان الأول" Le premier homme  لألبير كامو (1913-1960)، وقد صدر عام 1994 أي بعد وفاته بنحو أربعة وثلاثين عامًا، فيما ينتمي الثاني إلى الأدب العربي، وهو السيرة الذاتية لرضوى عاشور (1946-2014) التي تحمل هذا العنوان "أثقل من رضوى"، وقد صدرت عام 2013 أي بعد وفاتها بعام واحد.
وعلى الرغم من أن العمل الفرنسي يتمحور حول البطل الذى يدعى "جاك كورمري"، فإن القناع الأدبي فيه واضح إذ تشير التفاصيل كلها إلى حياة ألبير كامو نفسه.
 في حين أن العمل الثاني استغنى عن القناع حتى في عنوانه الذى حمل الاسم الصريح للمؤلفة، وإن كان قد صنع ذلك من خلال دلالة مجازية رفيعة المستوى حين قرنه باسم جبل شهير في التراث العربي بثقله، وهو "جبل رضوى". وجاء اختيار العملين انطلاقًا من تشابه مفهوم الذات والهوية في كل منهما.
 ففي "الإنسان الأول" يعيش الطفل الفرنسي في مجتمع عربي يسهم في مسيرة أحداث حياته، يبحث عن الإنسان الأول.. والده، ويتماهى هو نفسه معه.
وفي "أثقل من رضوى" تتماهى الذات التي تعاني من ظروف مرضية مع المجتمع الذي يشهد تغييرًا في أفكاره. 
وتعنى رشا صالح بتتبع العناصر الفنية التي يتم من خلالها تحقيق الذات، أو الهوية، أو مزيج منهما، أو التماس بينهما من خلال تشريح فني يضع في حسبانه عناصر تشكيل الهوية من خلال الزمان والمكان المحيط بشخصيات العملين.
وفي ورقتها المعنونة بـ "استنطاق كتاب (نساء على أجنحة الحلم) للكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي" قالت الناقدة السورية الدكتورة أسماء معيكل: اكتست كلمة الحريم لبوسًا سلبيًا، فما أن نسمعها حتى تتبادر إلى الذهن مباشرة تلك الصورة النمطية عن نساء قابعات خلف الأسوار، محاطات بحدود لا ينبغي تخطيها، فمن أين جاء هذا كله؟ وكيف تكونت سيرة الحريم؟ ومن الذي فرض هذه الحدود؟! لقد عرّجت فاطمة المرنيسي على مفهوم الحدود، في هذا الكتاب الذي يمكننا عدّه سيرة روائية تعيد إنتاج السيرة الذاتية من منظور التخيل السردي، وفيه وعي أنثوي تضعه المرنيسي الكاتبة على لسان الطفلة "فاطمة"، وتتحدث عن الحدود التي وجدت نفسها فيها، وضرورة تعلمها التمييز بين الحدود، وعدم اختراقها لكي تعيش سعيدة. وقد شغلها هذا الأمر كثيرًا، إذ أشارت إلى أن طفولتها كانت سعيدة؛ لأنّ الحدود كانت واضحة، وبهذا المعنى فلن تلازم السعادةُ المرأة إن هي جهلت حدود عالمها، ولكنها ما أن تخترقها حتى تصاب بالشقاء، فذلك إذن، تحذير نسوي من أن تخطّي الحدود يترتّب عليه نوع من الشقاء النفسي أو الجسدي، وحسب هذه النتيجة، فإنّ المرأة، في الماضي، كانت سعيدة؛ لأنّها تعرف الحدود التي لا يجب عليها اجتيازها، ولكن ما حال المرأة الحديثة التي فرض عليها دورها وطموحها اجتياز هذه الحدود؟ هل ستغمرها سعادة الحرية؟ أم أنّها ستقع ضحية الشقاء؟!
أما الناقدة الدكتورة جليلة الطريطر، الأستاذة بالجامعة التونسية، فقد تصدت لإبداع بنت البحر القاصة والروائية البنزرتية، حفيظة قارة بيبان، التي صدرت في مصر مؤخرًا روايتها الأحدث "العراء"، وذلك في بحثها المعنون بـ "النجمة والكوكوت.. يوميّة إيديولوجيّة" حيث ذكرت أن نصّ "النجمة والكوكوت" ينتمي إلى أدب الذات، وتحديدًا إلى كتابة اليوميّات، لذلك فهي تهتمّ أوّلا بكيفيّات اندراج النص المذكور في كتابة اليوميّة عامّة من حيث أسلوب الكتابة وسياقاتها ومضامينها.
وهو بمثابة المدخل الذّي تستغلّه الناقدة للكشف عن خصائص يوميّة "النجمة والكوكوت" السرديّة وأبعاده المضونية الّتي بدت تندرج تحت نوعية خاصة من اليوميات يصطلح عليها باليوميّة الإيديولوجية الّتي تدرج الخاصّ أو الحميم في قضايا سياسية تهم لحظة حاسمة يمر بها الوطن.

ومع الناقد العراقي الدكتور عبدالله إبراهيم، صاحب موسوعة السرد العربي، نتوقف أمام "أمواج" سيرته الذاتية الضخمة، وقد ذكر في ورقته أن هذه السيرة غطت تجربة حياة ناهزت خمسين عامًا حفلت بالأحداث، والحروب، والترحال، والمنفى، لكن مصير العراق خيّم عليها، فهي "سيرة عراقية" لما طواه في صفحاتها من تجارب كان الكاتب شاهد عيان عليها، فقد شهدُ العراق بلدًا متماسكًا، وشهده تحت الاستبداد، ثم أبصره ممزقًا بحروب استعمارية، وحروب أهلية! وظنه أن القارئ الحصيف سيدرك نبرة عدم التحيّز العرقي والديني والمذهبي والثقافي طوال صفحات السيرة، ويذكر عبدالله إبراهيم أنه يعوّل كثيرًا على مراعاة اعترافه الصريح بالأخطاء، والرغبة في تخطّيها. فلا ينبغي على المرء أن يخجل من أخطائه بل يفتخر بالخروج عليها.
أما الكاتب المصري المهجري الدكتور شريف مليكة، القادم من ولاية مريلاند بالولايات المتحدة الأميركية، فكانت شهادته بهذا العنوان: "من أنا؟: الكتابة عن الذات والهوية" وفيها أشار إلى أنه حاول أن يفكر في إجابة آنية عن هذا السؤال البسيط: من أكون؟ واستغرق التفكير بضعة أيام، ليكتشف في نهاية الأمر عجزه عن إيجاد صيغة مناسبة. وكانت كل تلك المعاناة في تعريف الذات، ذاته هو، يقول مليكة:
 دعوني أتساءل أمامكم اليوم: ما هي هويتي بالضبط؟ فهل أنا مصري، بحكم جنسيتي الأولى؟ أم سكندري حسب ميلادي؟ أم أكون أميركيًا إذا ما اعتبرنا أنني حائز على الجنسية الأميركية؟ ولكوني عشت هناك أكثر مما عشت في أي مكان آخر في هذه الدنيا؟
إذن هل هويتي عربية، بسبب ثقافتي، ولغة أمي التي تعلمتها منذ حداثتي؟ بل وقد يشاركني اليوم الكثيرون الرأي حين أزعم أنني لم أتعلم العربية كأول لغة، بل تكلمت لغة أخرى هي "العامية المصرية" ذات المفردات المختلفة تمامًا عن اللغة العربية الفصحى. وأنا أدَّعي أنني تعلمت اللغة المصرية، ثم انتظمت في صفوف الدراسة؛ فتتلمذت على لغة جديدة هي لغتنا العربية التي أتحدث بها إليكم اليوم، إذ قد يفوتنا الكثير إذا ما تحادثتا أنا وأنتم بلغاتنا الأم.
يسألني الكثيرون: لمَ لا تكتب سيرتك الذاتية؟ وجوابي دائمًا: وسيرة من غيري تراني أكتب على صفحات رواياتي وقصصي؟ هل ينبغي أن تعلو غلاف الكتاب عبارة: "حياتي في سطور"، أو "أيام عشتها"، أو حتى "سيرتي الذاتية"، حتى يدرك القارئ أنني أكتب عن ذاتي وعن أصدقائي وأهلي وعن خصومي ومن أثّروا في حياتي على نحوٍ إيجابيٍّ أو سلبيّ؟
فأنا لديَّ اعتقاد شبه يقيني بأن الكتابة لا يمكن أن تصل إلى قارئ ما لم تكن تتحلى بالصدق، وإن يجوز للخيال أن ينطلق فيضفي جماله وسحره على الكتابة فيضيف إليها التشويق والجاذبية التي تؤدي بالكاتب إلى تحقيق مبتغاه.
لذلك فلا يصح أن أكتب سوى عن تجربتي الشخصية وعن تفاعلي الذاتي مع شخصية أو حدث ما صادفته يومًا أو عايشته لأعوام، حتى يتأتى ذلك الصدق الذي يستشفه القارئ فيتفاعل بدوره مع الشخصيات والأحداث، بل وقد يرى ذاته ويجد معارفه داخل العمل إذا ما تمتع بتلك المصداقية.