تأليف الإسلاميين في العلمانية

العلمانيون العرب ما يزالون مترددين في التأليف حول العلمانية أو محلقين حول العموميات والتبريرات والمخاوف بحيث أن بعض الإسلاميين المتعلمنين أكثر جرأة في طرحهم العلماني من بعض المتعلمنين العرب!

بقلم:  حسين الوادعي

هل هو أمر طبيعي أن أغلب المؤلفات العربية المكتوبة عن العلمانية في آخر 40 سنة كتبها مؤلفون من أتباع التيار الديني المناهض للعلمانية (الإسلاميون)؟ ربما يكون أمرا طبيعيا، آخذين في عين الإعتبار جاذبية العلمانية وضرورتها التاريخية وتجلياتها المتزايدة في العالم العربي.

وربما حصل للإسلاميين مع العلمانية نفس ما حصل للقديس بولس مع المسيحية! فبعد أن كرس حياته لملاحقة المسيحيين ودحض أفكارهم، أصبح فجأة المؤمن الغيور بها وأهم مؤسسي المسيحية بعد أن طعّمها باللاهوت اليهودي المعقد المتشعب.

لقد بدأ الإسلاميون تأليفهم عن العلمانية كارهين لها، رافضين ومكفرين لأغلب أطروحاتها. ثم انتقلوا من الرفض التام الى الحوار، ثم من الحوار إلى تبني العلمانية المطعمة بالمرجعية الإسلامية، مقدمين علمانية تدافع عن سلطة الدين في السياسة والمجال العام بدلا من تحريره منهما.

هذه النقله البولسيه (نسبة إلى القديس بولس) لم تنجح في جعل أحد الإسلاميين الشخصية المؤسسة للعلمانية الإسلامية، لأن العلمانية هي “الحيادية الدينية”؛ وأي توصيف ديني للعلمانية هو نوع من الكوميديا السوداء مثله مثل الحديث عن لحوم نباتية أو استبداد ديمقراطي. ولأننا استثنائيون، فنحن لم نسمع من الآخرين حديثا مشابها حول علمانية بوذية أو علمانية كونفوشيوسية أو علمانية كاثوليكية وبروتستانتية.

رغم كل هذا، ما يزال التأليف الكثيف عن العلمانية باللغة العربية تأليفا إسلامويا على يد إسلاميين حائرين مع العلمانية خوفا وطمعا. من بين 70 كتابا عربيا عن العلمانية، هناك فقط 15 كتاب ألفها علمانيون أو باحثون محايدون. أما بقية كتب العلمانية، فقد ألفها إسلاميون.

قد تكون هذه ظاهرة استثنائية، لكن أحد أسبابها كان الخوف من الطرفين. خوف الإسلاميين من جاذبية الفكرة العلمانية، وخوف العلمانيين من التحدث عن العلمانية علنا وباسمها الصريح. لهذا ظلت العلمانية العربية أسيرة كتابات خصومها وجبن أنصارها.

الكتاب التأسيسي للجدل الإسلاموي حول العلمانية كان الكتاب الضخم للسلفي سفر الحوالي (700 صفحة) عام 1982. وقد ظل الإسلاميون عيالا على هذا الكتاب وناقلين ومرددين لاطروحاته واقتباساته في أغلب مؤلفاتهم.

بعد المناظرة الشهيرة بين العلمانيين والإسلاميين سنة 1989، انفجرت الساحة الإسلامية بالكتب حول العلمانية: يوسف القرضاوي، محمد قطب، صلاح الصاوي، منير شفيق، محمد عماره، فهمي هويدي، التلمساني، عماد الدين خليل…. إلخ.

كانت هذه مرحلة الرفض الإسلامي القطعي للعلمانية، وكان المفكرون العلمانيون إما يُقتلون (فوده) أو يُسكَتون أو يقدمون علمانية اعتذارية (زكريا) أو يعتذرون عن العلمانية (الجابري).

لهذا كان التأليف من طرف واحد ويحمل موقفا واحدا هو الرفض، حتى جاء عبد الوهاب المسيري ليقوم بدور القديس بولس بالنسبة للعلمانية العربية وليكون أول مفكر إسلامي ينادي بنوع من العلمانية الغامضة ذات المرجعية الدينية (العلمانية الجزئية).

ثم جاء محمد أركون لينادي بعلمانية معدلة غامضة قدر غموض علمانية المسيري وقدر غموض إسلامية أركون وأصوليته المضمرة (ربط أركون الإصلاح بإعادة فهم وتفسير القرآن!)

ثم انفتح مجال التأليف حول العلمانية من قبل مثقفين آخرين يساريين وقوميين وليبراليين بعد أن اكتسبوا جرعة شجاعة من محاولات عزيز العظمة (العلمانية من منظور مختلف) وعادل ضاهر (الأسس الفلسفية للعلمانية) المنادين بعلمانية إنسانية صلبة وصريحة.

لكن، رغم كل هذا، لا يزال التأليف الكثيف عن العلمانية باللغة العربية تأليفا إسلامويا على يد إسلاميين حائرين مع العلمانية خوفا وطمعا.

وما يزال الإسلاميون مأسورين بأفكار المسيري المشوهة حول العلمانية والحداثة الغربية، إذ أن كل أفكاره عبارة عن نقل مشوه لطروحات نقد الحداثة عند مدرسة فرانكفورت: هوركهايمر، هابرماس، ماركيوز.

وما يزال العلمانيون العرب مترددين في التأليف حول العلمانية أو محلقين حول العموميات والتبريرات والمخاوف، بحيث أن بعض الإسلاميين المتعلمنين أكثر جرأة في طرحهم العلماني من بعض المتعلمنين العرب!

لقد خاف الإسلاميون من العلمانية وكتبوا عنها وتحدثوا وهاجموها وكرسوا لها معظم جهودهم حتى صارت رفيقتهم اليومية، وحتى تحولت هذه الرفقة إلى خليط من الكراهية الظاهرة والحب المضمر.

لكنه حب سادي لا ينتهي إلا بذوبان شخصية المحبوب العلماني في المحب الإسلاموي بعد تخليه عن كل أطروحاته وقيمه.