تأملات في لوحتي محمود سعيد وفرّا أنجيليكو

لوحة محمود سعيد "الجزيرة السعيدة" تذكرنا بقصة مريم البتول والسيد المسيح طفلا في رحلة اللجوء أو الهروب إلى مصر.
القدم اليمنى تقدمت على اليسرى في لوحة محمود سعيد، بينما تقدمت اليسرى على اليمني في لوحة أنجيليكو
اللوحة الموجودة في دير القديس مرقص بفلورنسا يغلب عليها اللون الأخضر من خلال النباتات والأشجار وأرضية الحقول
حمار أنجيليكو يحتل اللوحة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بطريقة أفقية

لم يرسم محمود سعيد لوحته الشهيرة "الجزيرة السعيدة" – ألوان زيتية على توال 1927 – من فراغ، ولكنه تأثر فيها باللوحات التي رسمها فنانو عصر النهضة عن هروب العائلة المقدسة إلى مصر، ومنهم الفنان الإيطالي فرا أنجيليكو.
في لوحة محمود سعيد نجد الأم تحتضن طفلها فوق الحمار بطريقة تذكرنا بقصة مريم البتول والسيد المسيح طفلا في رحلة اللجوء أو الهروب إلى مصر. ويفسر الناقد الفني صفوت قاسم دلالة ذلك بأن مصر أرض مباركة وآمنة دائما، ولكنه لم يذكر تأثر سعيد بلوحة أنجيليكو التي بالفعل تعبر من خلال ملامح وجه السيدة العذراء الهادئة الآمنة، وملامح وجه المسيح طفلا التي يشملها الهدوء والسكيننة، بأنهما لجآ إلى أرض سيجدان فيها الراحة بعد رحلة المعاناة، وربما جاء ذلك بناء على إشارات إلهية.
لم نجد في لوحة أنجيليكو أية ملامح ذعر أو خوف أو فزع، ولكننا نجد السكينة تشمل محتويات اللوحة، بما فيها الحمار الذي تعتليه السيدة العذراء وابنها المتوج بهالة الرسل والأنبياء المقدسة.
واللوحة الموجودة في دير القديس مرقص بفلورنسا يغلب عليها اللون الأخضر من خلال النباتات والأشجار وأرضية الحقول إلى جانب الأصفر الذي يشير إلى بعض الأراضي الصحراوية التي يعبرها الحمار في طريقه إلى المكان الآمن والملاذ الدافيء، بينما ترتدي السيدة العذراء سروالا (أو إسدالا) أزرق فضفاضا يغطي كامل الجسد وحتى القدمين، بينما يبدو وجهها مستديرا ومنيرا تعلوه هالة صفراء، بينما يرتدي الطفل سروالا أحمر يجذب الانتباه ليكون هو البؤرة الرئيسية في المنتصف الأعلى للوحة.
وتبزغ يدا السيدة العذراء محتضنة ابنها بطريقة غريزية عند كل أم تحمي ابنها بكل عطف وحنان. 

لا جموح ولا تردد ولا خوف
لوحة انجيليكو

وعلى الرغم من أن الفنان حاول أن يجذب انتباهنا لكل من الطفل المسيح والسيدة العذراء ومنحهما ألوانا تختلف عن بقية الألوان باللوحة، إلا أن الحمار الذي يقلانهما كان هو العنصر الأكبر في اللوحة، فالحمار يحتل اللوحة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بطريقة أفقية، بينما الامتداد الطولي كان للسيدة العذراء وهي فوق الحمار الذي تدل حركات قدميه الأربعة على أنه يسير في طريقه الآمن والمعروف بالنسبة له. فلا جموح ولا تردد ولا خوف. بينما الحمار في لوحة محمود سعيد أشبه بالحمار الكرتوني "أبيض شديد الألفة صغير الحجم إذا ما قورن بأبعاد الأم المقدسة، وما تضم إلى صدرها من عطية للرب". 
ونلاحظ على قوادم الحمارين أنها تشابهت في حركة القدمين الأماميتين، بينما تختلف حركة القدمين الخلفيتين حيث تتقدم القدم اليمنى على اليسرى في لوحة محمود سعيد، بينما تتقدم اليسرى على اليمني في لوحة أنجيليكو، وأن ذيل حمار محمود سعيد أطول قليلا من ذيل حمار أنجيليكو.
كما نلاحظ في لوحة محمود سعيد "النخلة الرمزية القصيرة ذات السعف الطويل المهوّش كرأس امرأة رعوية، وارف الظلال، وقد تدلت عناقيد ثمارها كالأثداء موفورة الخير والعطاء؛ بينما احتوت بظلها سكان الجزيرة تماما كما تحتوي الأم صغيرها في  رحلة الحياة" كما يرى صفوت قاسم.
ومن الملاحظ على اللوحتين خلوهما من البشر عدا الأم وطفلها الصغير، وعلى حين لم تبن ملامح الأم ولا طفلها في لوحة محمود سعيد حيث شملهما السواد على الحمار الأبيض الكرتوني، كان الوجهان بلوحة أنجيليكو يشفّان عن بياض ناصع وسكينة وطمأنينة شاملة.
ويلاحظ صفوت قاسم أن البناء الذي يشبه الأضرحة في خلفية لوحة محمود سعيد أضفى على اللوحة مسحة صوفية توافقت مع الدلالات التي تشير إلى ارتباط المصري بالأرض الطيبة التي يحتويها النهر الخالد ويمدها بالخير والنماء. بينما نرى الجبال الصفراء أو البُنية والأودية الخضراء تمتد في خلفية لوحة أنجيليكو بما يوحي بشمول الأمن ربوع المكان، الأمر الذي يوحي ببلوغ العذراء وطفلها هدفهما، وهو الهدوء النفسي في أرض مصر، بعد فرارهما من عدو يتربص بهما.
وكعادته في كل لوحاته تقريبا، فإن محمود سعيد لم ينسَ عنصر الماء وما يرمز إليه، حيث أحاط جزيرته بما يشبه الترعة التي تحيط بالجزيرة المستديرة وهي "ترعة رقراقة صافية عذبة تمنح سكان الجزيرة السعيدة حياة وخصبا وخيرا وفيرا".
وتعليقا على لوحة أنجيليكو وأعماله يذكر د. ثروت عكاشة أن أنجيليكو (1387 – 1450) لم يكن أول فنان إيطالي عُني بتصوير المشاهد الخلوية فحسب، بل كان كذلك أول من بث الإحساس بجمال الطبيعة ورونقها، فإذا نحن نحس نضارة الربيع في تصويره لأزهار البيئة التوسكانية، وهو ما تجلى في لوحة "هروب العائلة المقدسة إلى مصر".
وما نريد إثباته هنا هو أن الفنان محمود سعيد قد تأثر بفنون عصر النهضة، ولكنه لم يلجأ إلى التقليد الأعمى لهذه الفنون، وإنما حاول – هو وأبناء جيله من الرواد - تمصير الفن التشكيلي، ونجحوا في ذلك، واستطاعوا أن يقدموا لنا فنا طازجا فيه الرؤية والألوان المصرية، والإحساس المصري والبيئة المصرية، حيث لم ينس محمود سعيد وضع الخلخال بالقدم اليمنى للسيدة التي تعتلي الحمار.