انهيار سريع لاتفاق التهدئة يعيد طرابلس لمربع التوترات الأمنية
طرابلس - لم يصمد اتفاق التهدئة بين المجلس الرئاسي بقيادة محمد المنفي وحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة سوى أيام قليلة، قبل أن يعود التوتر إلى شوارع طرابلس، في مؤشر واضح على هشاشة التفاهمات الأمنية بين الأطراف المتصارعة في الغرب الليبي. وعلى الرغم من المساعي التي قادها المجلس الرئاسي لضبط الوضع ومنع انزلاق العاصمة إلى مواجهات أوسع، فإن تصاعد التوترات الميدانية بين مجموعات مسلّحة محسوبة على أطراف حكومية واخرى مناوئة لها فاقم من حالة الغموض، وكشف عن ضعف فعالية المؤسسات الأمنية في فرض السيطرة على الأرض.
وتأتي هذه التطورات لتؤكد أن الأزمة الليبية لا تزال رهينة صراعات النفوذ داخل مؤسسات الحكم نفسها، وأن الانقسامات باتت تُشكّل تهديدًا مباشرًا للاستقرار في العاصمة. كما أن غياب آلية تنفيذ واضحة لاتفاقات التهدئة، وافتقارها لضمانات حقيقية، ساهم في تقويضها سريعًا. هذا الفشل المتكرر في تثبيت الاستقرار يعكس أيضًا عمق الانقسام بين القوى السياسية والعسكرية في الغرب الليبي، ويضع المجتمع الدولي أمام معضلة جديدة بشأن كيفية دعم مسار سياسي تفتقر أطرافه إلى الحد الأدنى من الانسجام والالتزام.
وشهدت العاصمة الليبية أمس تصعيدًا أمنيًا ملحوظًا رغم الجهود المبذولة لتطويق الأزمة ومنع التصعيد. حيث تسعى البعثة الأممية للدعم في ليبيا إلى تحقيق تفاهمات سياسية وأمنية، في ظل الوضع الميداني الهش في المنطقة الغربية والذي يهدد مستقبل العملية السياسية برمتها.
وبدأت الأزمة بتصعيد ميداني بين التشكيلات المسلحة، مما أدى إلى خرق اتفاق وقف إطلاق النار. حيث دخلت قوات تابعة لجهاز الأمن العام إلى جزيرة القادسية، مما أثار ردود فعل من جهاز الردع لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، الذي أعاد نشر قواته في عدة مواقع استراتيجية.
في رد فعل على هذه التطورات، أعاد جهاز الردع انتشاره في عدة مواقع حيوية داخل المدينة، بما في ذلك جزيرة سوق الثلاثاء وطريق الشط. كما استعاد مقره السابق في معسكر الرجمة، ودفع بتعزيزات إضافية إلى عدة محاور داخل المدينة. فيما استولى على سيارة عسكرية تابعة للواء 444 قتال في جزيرة أبومشماشة، وأسر عنصرين من أفراد اللواء في المنطقة ذاتها.
في المقابل، سمع دوي إطلاق نار متقطع في محيط شارع النصر، وسط تحركات عسكرية وانتشار لعناصر كتيبة النواصي في محيط مقر الإذاعة الرسمي بالمنطقة. وأظهرت مقاطع مصورة اشتعال النيران بمقبرة سيدي منيذر بشارع النصر.
ويأتي هذا التصعيد رغم الاتفاق بين المجلس الرئاسي الليبي وحكومة الوحدة الوطنية الأسبوع الماضي، على إجراءات مشتركة لتعزيز الأمن وبسط سلطة الدولة.
وفي ظل هذه التطورات، كثفت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا تحركاتها لاحتواء الأزمة ومنع التصعيد. فقد عقدت نائبة الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة، ستيفاني خوري، سلسلة من اللقاءات في بنغازي استمرت ثلاثة أيام، مع مختلف الأطراف السياسية والأمنية، بهدف التوصل إلى تفاهمات بشأن الوضع الراهن.
وأوضحت البعثة أن هذه اللقاءات أسفرت عن تلقي مقترحات لحل الأزمة السياسية والأمنية في البلاد. وقد تضمنت هذه المقترحات إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة، مع إحداث تعديلات على القضايا الخلافية في قوانين الانتخابات الحالية، أو إجراء انتخابات برلمانية أولًا، يليها اعتماد دستور دائم، ثم إجراء انتخابات رئاسية. كما تم اقتراح إنشاء لجنة حوار سياسي، وفقًا للمادة 64 من الاتفاق السياسي الليبي، لتحل محل جميع المؤسسات مؤقتًا، واستكمال قوانين الانتخابات، واختيار حكومة مؤقتة.
وأضافت أن غالبية المشاركين في هذه اللقاءات أعربوا عن تقديرهم لعمل اللجنة الاستشارية، وطالبوا باتخاذ إجراءات عاجلة لمعالجة الانسداد السياسي الحالي، وإيجاد حل ليبي دون مزيدٍ من التأخير. كما أعربوا عن إحباطهم من حالة الانسداد السياسي المستمر، وانعدام الأمن، والصعوبات الاقتصادية، والانقسام، مطالبين بإنهاء الانقسامات السياسية، بما في ذلك وجود حكومتين، من خلال حل سلمي ليبي-ليبي.
ورغم الجهود الأممية المبذولة، يواجه الوضع الميداني في طرابلس تحديات كبيرة تعيق التوصل إلى تسوية سياسية شاملة. فقد أعربت البعثة الأممية عن قلقها البالغ إزاء التقارير التي تفيد بحشد القوات في العاصمة، بما في ذلك التهديد باستخدام القوة لحل الأزمة. ودعت البعثة بشكل فوري إلى التهدئة وخفض التوتر وضبط النفس، مؤكدة أن "لا مناص عن الحوار كحل وحيد لجميع القضايا الخلافية".
كما أكدت البعثة أن استعراض القوة العسكرية والمواجهات المسلحة في الأحياء المأهولة بالسكان أمر غير مقبول ويهدد حياة وأمن وسكينة المدنيين. وقالت إن هذه التحركات لا يمكن أن تُنتج حلاً مقبولًا أو عمليًا للأزمة الحالية أو للجمود السياسي الذي طال أمده، وإن فيها سببًا إضافيًا يفاقم الأزمة ويقلل من فرص التوصل إلى حل سياسي.
في ظل هذه التطورات، يبقى السؤال الأبرز: هل ستتمكن الأطراف الليبية من تجاوز خلافاتها والتوصل إلى تسوية سياسية شاملة تضمن استقرار البلاد؟ رغم الجهود الأممية المبذولة، يظل الوضع الميداني في طرابلس هشًا، والتحديات الأمنية والسياسية قائمة. لكن يبقى الأمل معقودًا على الحوار والتفاهم بين الأطراف المختلفة، وعلى الدعم الدولي المستمر لتحقيق السلام والاستقرار في ليبيا.
ويتطلب الوضع في طرابلس تضافر الجهود المحلية والدولية، والعمل المشترك بين جميع الأطراف المعنية، من أجل تجاوز الأزمة الحالية وبناء مستقبل أفضل للشعب الليبي.