تدين بلا سلطة دينية.. مع تدفق المعارف الذاتية!

في مقدور الفرد اليوم أن يتدين بلا حاجة إلى مؤسسة دينية أو سلطة سياسية ومثل الطابعة ثلاثية الأبعاد أو الموبايلات الذكية فإن التدين الفردي يمثل تحديا للسلطة في تنظيمها للنشاط الاقتصادي والاجتماعي للمواطنين.

بقلم: إبراهيم غرايبة

يبدو الدين مرشحا ليأخذ موقعا جديدا ومختلفا في عالم العرب والمسلمين، ما يدعو إلى هذا التقدير هو حالتان جديدتان على الأقل تتشكلان؛ أولاهما مراجعة الحالة الدينية الجارية اليوم، والثانية صعود الفردية في ظل الشبكية التي تعيد صياغة علاقات القوة والتأثير والتنظيم في الدول والمجتمعات، وفي ذلك فإن في مقدور الفرد اليوم أن يتدين بلا حاجة إلى مؤسسة دينية أو سلطة سياسية، ومثل الطابعة ثلاثية الأبعاد أو الموبايلات الذكية فإن التدين الفردي يمثل تحديا للسلطة في تنظيمها للنشاط الاقتصادي والاجتماعي للمواطنين.

وسواء تزايد أو تراجع تأثير الدين ووجوده في حياة الناس وتصوراتهم والحقائق الأساسية المحيطة بالكون والحياة فإنه يتخذ أوضاعا جديدة ومعاني جديدة أيضا، فالنص الديني يقرأ في سياق العلاقة به، ويفهم ويتشكل كما يقرأ، وفي استيعاب الإنسان لشبكة الدلالات التي صنعها بنفسه ويجد نفسه جزءا منها، فإنه ينشئ نظامه الثقافي ورؤيته لحياته وعالمه الخاص.

صحيح أن هناك فرقا بين الدين والثقافة، فالمتدين يرى الدين رسالة من الإله لترشده في حياته وبعد مماته، لكن لا مناص من فهم هذه الرسالة وملاحظتها في ظل الثقافة والتجارب الإنسانية المتشكلة، وليس ذلك لإثبات صواب الدين أو خطئه، حتى وإن كان الدين في حالته الأصلية النقية أكبر من قدرات الإنسان وكانت الثقافة من صنع الإنسان، لكن لا مفر من فهم الدين ودراسته بالأدوات الإنسانية، العلم واللغة والتجربة والحضارة، وأن يؤمن الإنسان فردا أو جماعات بالدين على النحو الذي تعبر عنه النصوص الدينية؛ لا يغير أيضا من حقيقة أن الثقافة والدين هما من مظاهر حياة الإنسان (غير الدينية)، وعلى الرغم من أن هذه المقولة صارت بديهية في عالم الغرب، وتكونت في ذلك معرفة واسعة ومكتبة هائلة من الكتب والدراسات والأفلام والمسرحيات والروايات والقصص والفنون،.. فما تزال في عالم العرب فكرة خيالية متطرفة!

كان من أسوأ ما أصاب عمليات التحديث والاستيعاب المعاصر للإسلام التي بدأت في ظل الدولة العربية الحديثة، هو إعادة فهم المعارف والمنجزات الغربية بمنظور إسلامي بدلا من العكس؛ أي دراسة الدين وإعادة فهمه بمدخلات العلوم الحديثة التي تطورت في عالم الغرب، فصار لدينا أنظمة إسلامية في السياسة والاقتصاد والبنوك والتعليم والإعلام وأسلوب الحياة والعمارة، هي ليست إسلاما وليست حضارة، بدلا من أن يكون لدينا عمليات فهم واستيعاب للدين في فضائه العام بما هو حالة أو ظاهرة ثقافية أو اجتماعية فيكون لدينا سوسيولوجيا الإسلام وانثروبولوجيا الإسلام وبيولوجيا السلوك الإسلامي، أو في عبارة أخرى كان يجب أن يكون لدينا أنسنة الدين بدلا من تديين الإنساني، ففي الأنسنة يكون في مقدورنا أن ننشئ حياتنا كما يجب وكما نحب أن تكون ويكون الدين في السياق المعرفي والاجتماعي الذي يخدم هذا الاتجاه، أو يكون التدين هو ما نتوقعه من الدين بما تمنحنا هذه التوقعات مدركاتنا الحضارية والاجتماعية، لكن في التدين فقد مضينا بحياتنا وشأننا المشهود لنخضعه للغيب الذي لا يعرفه أو يدركه أحد، وفي ظل غياب هذا الإدراك صارت تقود حياتنا مؤسسات وجماعات تنشئ معرفتها وقراءتها وفهمها للدين، وصار الدين هو ما تتوقعه منا السلطات الدينية والسياسية، وتصف توقعاتها منا والتي هي مطالب وطموحات وأهواء سلطوية بأنها الدين أو كما في القرآن "ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله".

 لكننا نملك اليوم فرصة عظيمة في صعود الفردية وتدفق المعرفة وتداولها وإنتاجها على نطاق واسع يتاح لكل إنسان أن يشارك فيه أن ننشئ حاضرا جديدا نحدده من معطيات الحاضر نفسه غير ملزمين بالمؤسسات والمنجزات التي لم يعد لها مبرر، ولن تكون موجودة في المستقبل القريب.