تراب مقدس ولعق أضرحة: الصراع العنيف بين الدين والعقل!

الإشكالية بدأت بعدما عمد متديّن إيراني إلى لعق قضبان مقام ديني للدلالة إلى أنه لا يبالي بالفيروس، طالما انه في حضرة المقام.

بقلم: رامي الأمين

شكّل العقل والتطور العلمي دائماً تحدياً أمام الأديان، وأتى انتشار وباء فيروس كورونا ليعيد المواجهة بين العقل و"المقدس" الى الواجهة. “إذا قلتُ المحال رفعتُ صوتي/ وإن قلتُ اليقين أطلتُ همسي”، هذا البيت الشعري لأبي العلاء المعري يختصر حال كثيرين ممن يجدون أنفسهم مجبرين على التزام الصمت إزاء ظواهر غريبة لا ترتكز إلى عقل ولا تقارب المنطق. وهذه الظواهر غالباً ما تستند إلى قوة الدين لتظهر وتستمر وتفرض إيقاعها على الجموع. وما شهدته مواقع التواصل الإجتماعي من نقاشات محتدمة على وقع فيروس كورونا حول طقوس وعبادات “شافية”، لا تحيد عن سكة هذا القطار المجنون الذي يداهمنا “ضوؤه” في النفق المظلم، والإعتراف بأن الضوء في آخر النفق ليس سوى ضوء قطار قادم بالاتجاه المعاكس لسحقنا، يتطلب شجاعة كبيرة كما يقول الفيلسوف سلافوي جيجك.

لكن المنادين هذه الأيام بالعلم سبيلاً إلى الفهم الطبي للوباء الخطير الذي ينتشر في الكوكب، كأنما يرفعون صوتهم، ولا يطول همسهم، فقد اعتبروا هذه الطقوس ضرباً من العبثية والجنون لا يؤدي إلّا إلى التهلكة.

الإشكالية بدأت بعدما عمد متديّن إيراني إلى لعق قضبان مقام ديني للدلالة إلى أنه لا يبالي بالفيروس، طالما انه في حضرة المقام الذي تؤمن قدسيته حماية من الإصابة به. وحاولَتْ، بعدها بأيام، سيدة في لبنان ومعها تراب مأخوذ من مكان دفن القديس المسيحي مار شربل، خرق الحجر الصحي في المستشفى الحكومي في بيروت “لشفاء المصابين بالكورونا بالتراب المقدس المجبول بالماء”. وأصرت كنائس في غير مكان في العالم على تطبيق طقس المناولة عبر استخدام الأواني والملاعق نفسها لجميع المصلين، فأصيب بذلك المئات بالعدوى. وهذا لا يحيد عن إصرار قديم لدى جماعة معروفة بـ”شهود يهوه” ترفض نقل الدم إلى المنتسبين إليها بما في ذلك الأطفال، في حال تعرضهم لحوادث أو لامراض تستدعي هذا النوع من نقل الدم، لأن معتقداتهم تحرّم ذلك، ولو أدى الأمر إلى فقدان الحياة. والمفارقة أن الكنيسة الكاثوليكية تعتبر “شهود يهوه” مهرطقين، ولا تعترف بهم.

لكن هذا النقاش- الصراع ليس ابن ساعته. ولا ابن سنته ولا قرنه، بل يعود سنوات طوال إلى الوراء، وقد شهدته المسيحية عنيفاً في القرون الوسطى المظلمة مع محاكم التفتيش، والتي سبقتها “محاكم تفتيش مبكرة” يفندّها جورج طرابيشي في “نقد نقد العقل العربي- نظرية العقل”، وظهرت في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد وكانت الغلبة فيها للقمع والاتهام وتكميم الأفواه، بتهم تطال حتى اولئك الذين يرفضون الاعتقاد بما هو خارق للطبيعة، أو اولئك الذين يدرسون أو يعلّمون علم الفلك، ولم ينج من هذه المحاكم حتى سقراط الذي فضّل تجرّع السم على الرضوخ لأحكامها. ومثال غاليليو غاليلي، الذي اعتذرت منه الكنيسة الكاثوليكية في العام 1983 بعد قرون من وفاته، لا يزال حاضراً. وغاليلي حوكم في القرن السابع عشر بسبب اتهامه بالهرطقة لانه اصرّ على إثبات نظرية مركزية الشمس ودوران الأرض حولها، ومع ذلك حاكمته الكنيسة وإدانته بتهمة الهرطقة واعتكف في بيته حتى مماته. وإذا كان المرجع الشيعي الراحل السيد محمد حسين فضل الله قد قال بضرورة مراجعة الدين أوراقه إذا اختلف مع العلم، فإن المعرّي كان له رأي أكثر راديكالية في رفض الخلط بين الدين والعلم، وصل حدّ القول: “إثنان أهل الأرض، ذو عقل بلا دينٍ وآخر ديّنٌ لا عقل له”، أو قوله بنبوّة العقل: “أيها الغرّ إن خصصت بعقل فاسألنه فكلّ عقلٍ نبيّ”.

وفضل الله يبدو في موقفه هذا أقرب إلى المتكلمين العرب المعتزلة، منه إلى المعريّ الجامح، والمعتزلة قالوا بتقديم حجة العقل على حجة النص الديني في حال تعارضهما، لا بل قال المعتزلة بحاكمية العقل وغلبته على النص.

هذا التضارب بين العقل والدين، جعل ابن الراوندي يذهب أبعد في “كفره” بالطقوس الدينية، إذ ينسب إليه قوله: “الرسول أتى بما كان منافراً للعقول، مثل الصلاة، وغسل الجنابة، ورمي الحجارة، والطواف حول بيت لا يسمع ولا يبصر، والعدو بين حجرين لا ينفعان ولا يضرّان. وهذا كله مما لا يقتضيه عقل”. وهذا النوع من النقاش لم يغب لا عن تاريخ الإسلام، ولا عن تاريخ المسيحية، وشكّل العقل والتطور العلمي دائماً تحدياً أمام الأديان. ولم يغب هذا النقاش عن المسيحية الكاثوليكية، بل ان المجمع الفاتيكاني الثاني قال بخلاص غير المؤمنين، بما في ذلك الملحدين. وربما يكون النقاش الذي عرضه فيلم “الباباوان- The two pops”(إنتاج نتفلكس)، بين البابا بينيديكتوس السادس عشر والبابا فرنسيس حول مواكبة الكنيسة للعصر وعلاقتها الإشكالية بمواضيع كالمثلية الجنسية واستخدام الواقي الذكري وسواها، ابرز برهان على حيوية الدين المسيحي في مقاربته للتطور العلمي والطبي والإجتماعي.

كاتب لبناني