تراجيديا الكفن المنسوج من رمال رطبة 

منجز إبداعي يتخطى حدود الممكن بأدوات فنية، أحيا بناءه المبدع الجزائري عامر هاشمي، في مسار بحثه الأعمق نحو إحياء تآلف تعبيري تجريدي.
الفنان الجزائري انتزع خصائص الجرأة في خارطة الفن المشرقي بإيغاله في تفاصيل المذهب التعبيري
هاشمي يخترق بمؤثراته الجمالية كل حواجز البصر

بقلم: عبدالرحمن جعفر الكناني 

يأخذ الحدث الحي حين يطوي صفحته، صفة الذكرى في رف ذاكرة معلقة، أما إذا تسامي، إلى مشهد فني بصري، يتجسد في فلسفة جمالية، تتدفق عبر توليفات لونية فيكشف عن أبعاده الخفية، في مقاربات تشكيلية بين مؤثرات حسية وتقنيات حرفية في توظيف الخطوط والألوان بكيان فني متآلف، يجعل من الأشكال مخلوقات تتحرك دوما على هوى الأحاسيس النابضة بآليات التوافق بين الروح والواقع.
منجز إبداعي يتخطى حدود الممكن بأدوات فنية، أحيا بناءه المبدع الجزائري عامر هاشمي، في مسار بحثه الأعمق نحو إحياء تآلف تعبيري ـ تجريدي له قدرة مد صرح جمالي تطلق فيه الذات المعنى المكبوت بعيدا عن الشكل التقليدي للموضوع بغية إيجاد القيم المجردة القادرة على التعبير عن مكنونات الذات، إزاء حدث ما.
تمتد الخطى في عالم جمالي على مسار مذهب تعبيري حديث يفتح بالألوان والخطوط المساحة الأوسع لحرية هي أقدر على تجسيد الحركة المؤثرة في ذهن المتلقي بعيدا عن البناء "الرسمي" للأشكال التي تستنسخ الواقع بجموده المعتاد.
•    التجريدية في بناء عالم موضوعي 
ويخترق "هاشمي" بمؤثراته الجمالية كل حواجز البصر، لتجتذب إليها المتلقي الباحث في هواه عن شكل لهواجس داخلية يبلغ به الإدراك الحسي لما هو عاطفي أو نفسي، بغية استعادة شيء من التوازن الذاتي المفقود، فهو المدرك لقدرته التعبيرية حين ينتقي بذكاء المفردات التشكيلية في تمثيل الأشكال المؤثرة في حاسة البصر.

التعبيرية هي بعث روح في واقعية جامدة، تنحصر في رؤيا بصرية، تعجز عن تحريك كوامن الذات، كونها مشهدا معتادا لا يكشف عن بعد خفاياه

انتزع خصائص الجرأة في خارطة الفن المشرقي بإيغاله في تفاصيل المذهب التعبيري الذي يبدو فضفاضا في الأدب، ومتلونا في تقلباته؛ من التصاميم المتجزئة وصولا إلى التحول الرمزي للشخوص، لاستجلاء مكنونات الذات وإبراز رؤية الجوهر الشخصي كرد فعل لإنطباعية واقعية جامدة، فأثار إشكاليات وجودية في بناء الشكل وتركيب الجمل لفك تعقيدات شكلية تتلاءم مع مبدأ التعبير، عن إشكالية كبرى.
لكن التعبيرية في أدوات "عامر هاشمي" أضحت أقرب إلى الدقة في بنائها للأشكال وتمثيل العالم الموضوعي، في إنجاز فعل حاسم لكل الإشكاليات باعتماد بنية تجريدية بآليات حسية تعكس حالة شعورية ما بمؤثرات لونية قد تتشابه مع مؤثرات الصوت في الإيقاع الشعري - الموسيقي.
جماليات تواصل الحواس 
و"الأنا" التشكيلية كما "الأنا" الأدبية في الرواية والقصة والشعر التعبيري حاضرة في مساحات اللوحة التي تتجسد فيها الرؤى والمواقف التي يسقطها التشكيلي كما يسقطها الأديب في نصه الأدبي المتعادل بتمثيل يضحى موضوعيا لحالة وجدانية مؤثرة، تعي ما تراه فتفرد له مساحات في عالم مرئي بأسلوب تقني له نظمه الجمالية القائمة على تراسل الحواس عبر الشفافية واللمسات لإبراز القيم الجمالية الكونية: الانسجام، النظام، التوازن، التناظر، الحركة، الإيقاع، التنوع، الوحدة.
جماليات تآلفه التعبيري ـ التجريدي يتجه عمدا إلى إطلاق البعد الإنساني فوق جدران لوحاته، كشكل من أشكال محاكاة النفس، وأسلوبا من أساليب التعبير عن كوامن الذات الراغبة في بث شحنات مكبوتة. 
فالبعد الحسي فعل يؤسس قاعدة التشكيل الفني، فيضحى بمثابة البعد القائم على: الفلسفي والتقني والتعبيري، القادر على تحريك الدافع الروحي بما يحمله من مضامين تأخذ قدسيتها من قدسية "الموقف" الإنساني المعبر بحركته التجريدية.

فعل حاسم لكل الإشكاليات
يعطي للتجربة عمقها

تجريدية تعبيرية، أخذت الأصل الطبيعي للأشكال، التي رتبت في قطع تتلاقى لقاءً إيقاعيا، تحمل خصائص تجربة "هاشمي" الفنية، في بناء اللوحة على شكل قطع إيقاعية، تترابط دون اعتماد دليل بصري مباشر، بغية إعلاء جوهر الإشكالية الكبرى التي يعالجها "الهجرة". تحكم بقدرة تقنية، في وحدة الشكل المركب على شكل قطع، هذا الشكل الذي منح المتلقي تنوعا في المعنى الأكثر ثراءً، لمأساة "هجرة إلى الشمال". 
تجليات التآلف بين التراجيديا والجمال
لقد استحضر روح كاندنسكي، في رسم كيانات أشكاله المتحركة في مربعات ومستطيلات ومنحيات وزوايا، مدها بظلال ضوء متنوع، تنوعت به الأشكال رغم وحدتها، وهنا تتجلى الشخصية الفنية، التي يحمل سماتها، مثل فنان يطلق سمفونيته المتعددة النغمات، على ريشة عزف منفرد.
عامر هاشمي، أكاديمي تشكيلي، يعطي للتجربة عمقها، مستخرجا نظرية، اختصت في تجريدية، لها قدرة إثراء الواقع، وتشخيص انكساراته، التي تتعثر بها قيم إنسانية عليا، لم تصل مبتغاها المرتجى. 
يقف بــ "أناه" مبحرا مع مهاجر في "قارب موت"، مدونا فصول رحلة، أبعد من مديات حلم، يستدرج المنتشي به إلى الغوص في أعماق، هواءها المذاب لا يمنح الروح حياة أخرى تقتفي آثار "رؤيا" تتجلى في الواقع كفنا منسوجا من رمال رطبة على شاطيء بحر جنوبي. 
تراجيديا، في نصوص جماليات تشكيلية، تقرأ كما الأبجدية التي تشكل نصا، يعانقه قارئ، يتيه في مجرى السؤال عن سر هذا التآلف بين "التراجيديا والجمال".
تآلف لم يضعه "عامر هاشمي" في سياق "ميثولوجيا" من سحر الغيب أو الخيال، فهو الراصد لـ "وقائع" عصر راهن، هزت ضميرا بشريا، لم ير لهزته شكلا، فدعاه لرؤية ما لم يره بحاسة البصر، في بناء جمالي روحي مؤثر.
أما التعبيرية فهي بعث روح في واقعية جامدة، تنحصر في رؤيا بصرية، تعجز عن تحريك كوامن الذات، كونها مشهدا معتادا لا يكشف عن بعد خفاياه، والفن كشف صريح عن بعد خفي، في مشهد مرئي، يستفز الذات، لتطلق طاقتها المحاصرة، في إدراك كارثة تهدد وجودا بشريا، يبحر دون هداية بحثاعن ضالته.