
تركيا تُمهد لمصالحة مع دمشق بترتيب من طهران وموسكو؟
أنقرة - كشف وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو اليوم الخميس أنه أجرى محادثة قصيرة مع نظيره السوري فيصل المقداد على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز الذي عقد في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي بالعاصمة الصربية بلغراد وهي المرة الأولى التي تتحدث فيها تركيا عن تواصل مباشر مع أحد أعضاء النظام السوري بعد نحو 10 سنوات من العداء ودعم للفصائل السورية المعارضة بشقيها المعتدل والمتطرف.
وقد يشكل هذا التواصل على الرغم من أنه تم قبل أقل من عام انعطافة في مسار العلاقات التركية السورية المتوترة منذ تدخل تركيا في الحرب دعما لفصائل مسلحة من أجل إسقاط النظام السوري.
وقال جاويش اوغلو "لقد مرت 11 عاما على الحرب الداخلية في سوريا ومات وهُجّر الكثيرون، يجب أن يعود هؤلاء الذين اضطروا لترك ديارهم إلى وطنهم بمن فيهم المقيمون في تركيا، ومن أجل ذلك نسعى لتحقيق سلام دائم في سوريا".
وتطرق الوزير التركي إلى إعادة إعمار سوريا قائلا "يجب الإقدام على خطوات ملموسة في هذا الخصوص، لكن لا أحد بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية تريد تقديم مساعدات قبل تحقيق وقف حقيقي لإطلاق النار وإحلال سلام دائم في سوريا".
وردا على سؤال عما إذا كان هناك تواصل بين تركيا والنظام السوري على الصعيدين الدبلوماسي والسياسي، أكد جاويش أوغلو أن التواصل بين الجانبين يقتصر حاليا على أجهزة الاستخبارات.
وأضاف "الرئيس أردوغان أجاب عن هذا السؤال أثناء عودته من مدينة سوتشي الروسية، الجانب الروسي أبدى رغبته منذ فترة طويلة في عقد لقاءات بين الجانبين التركي والسوري، والرئيس بوتين سعى للقاء بين أردوغان والأسد، لكن الرئيس أردوغان قال له إن اللقاءات الجارية بين أجهزة الاستخبارات ستكون مفيدة".
وأشار إلى أن "أجهزة الاستخبارات كانت تتواصل فيما بينها والآن عاد هذا التواصل مجددا بعد فترة من الانقطاع، وخلال هذه اللقاءات يتم تناول مواضيع مهمة".
وأكد أن تركيا لا تطمع في اقتطاع أجزاء من سوريا وتدعم وحدة أراضي هذا البلد أكثر من كافة الدول الأخرى، مشيرا أن أنقرة تدعم دائما أي كفاح ضد التنظيمات الانفصالية".
وقد تزامن إعلان جاويش أوغلو عن هذه المحادثة القصيرة مع تأكيد المرصد السوري لحقوق الإنسان أن الجيش التركي الذي يحتل أجزاء واسعة من شمال سوريا، انسحب من قاعدتين بريف تل أبيض الغربي في قريتي حرقلي وتانوز.
وذكر المرصد الذي مقره لندن ويعتمد على شبكة واسعة من المراسلين في سوريا، أن الجيش التركي نفّذ الانسحاب بالتنسيق مع القوات الروسية في المنطقة.
وقد تحل القوات الروسية والسورية محل القوات التركية في تل أبيض وهو سيناريو مرجح بعد القمة الثلاثية التي جمعت رؤساء كل من تركيا وإيران وروسيا في طهران وبعد القمة الثنائية التي عقدها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين مؤخرا في منتجع سوتشي.
وكانت روسيا قد عبرت عن معارضتها لعملية عسكرية واسعة كانت تركيا تعتزم تنفيذها في شمال سوريا تشمل كل من تل رفعت ومنبج وعين العرب (كوباني) واقترحت أن تتولى قوات سورية تأمين الحدود بين سوريا وتركيا كحل وكضمانة لعدم تعرض المناطق الحدودية التركية لهجمات تشنها التنظيمات الكردية السورية.

ولا يخرج حديث وزير الخارجية التركي عن سياقات مصالحة بين النظام السوري والمعارضة والعمل على ضمان وحدة سوريا خاصة مع وضع يزداد تعقيدا في شمالها مع تداخل وتشابك مصالح أكثر من طرف في الحرب التي لم تضع أوزارها بعد أكثر من عقد من اندلاعها، ففي الشمال السوري تنتشر قوات نظامية سورية وروسية وأيضا وحدات مسلحة كردية تدعمها الولايات المتحدة وقوات تركية تدعم فصائل مسلحة.
وهذا التعقيد يجعل من الصعب التوصل إلى تهدئة أو استقرار بدون توافق جميع الأطراف المتدخلة، بينما تسعى تركيا لتحجيم دور الوحدات الكردية التي أصبحت أكثر تسلحا بفضل الدعم الأميركي وشكلت قوات شبه نظامية، لكن الوجود العسكري التركي على الرغم من أهميته بالنسبة لأنقرة، أصبح مكلفا في ظل أزمة مالية طاحنة وركود اقتصادي سيؤثر حتما على مسار الانتخابات الرئاسية التركية المقررة في العام 2023.
وفي مؤتمر صحفي عقده الخميس على هامش اجتماعات المؤتمر الـ13 للسفراء الأتراك بالعاصمة أنقرة، قال جاويش أوغلو "أجريت محادثة قصيرة مع وزير الخارجية السوري في اجتماع دول عدم الانحياز ببلغراد"، مشددا على ضرورة وجوب تحقيق مصالحة بين المعارضة والنظام في سوريا بطريقة ما، مبينا أنه لن يكون هناك سلام دائم دون تحقيق ذلك.
وتابع "يجب أن تكون هناك إرادة قوية لمنع انقسام سوريا والإرادة التي يمكنها السيطرة على كل أراضي البلاد لا تقوم إلا من خلال وحدة الصف".
وهذه المرة الأولى التي تتحدث فيها تركيا على ضرورة منع انقسام سوريا وعن وجوب التوصل إلى تسوية بين المعارضة والنظام السوري.
ويبدو أن الأمر مرتبط بترتيبات جرى مناقشتها في العام الماضي على ضوء التطورات في سوريا حيث نجح النظام بدعم من روسيا وإيران في قلب معادلة الصراع لصالحه وسيطرته على معظم الأراضي التي كانت خاضعة للمعارضة بكل ألوانها السياسية والعسكرية والمعتدلة منها والمتشددة.
وتجري تركيا على أرجح التقديرات تعديلات في إستراتيجيتها وفي سياستها الخارجية على طريقة تخفيف جبهات المواجهة على وقع نكسات سياسية واقتصادية مؤلمة بالنسبة لحزب العدالة والتنمية الذي يحكم البلاد منذ العام 2002.

وكان لافتا الخطوات التي قطعتها أنقرة باتجاه مصالحة شاملة مع كل من الإمارات والسعودية وتحركها لمصالحة مماثلة مع مصر ومحاولة تهدئة التوترات مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
ويحتاج الرئيس التركي الذي ستكون انتخابات العام 2023 حاسمة بالنسبة لمستقبله ومستقل حزبه السياسي، تخفيف جبهات المواجهة ولعل سوريا واحدة من تلك الجبهات التي يريد الخروج منها بأقل الخسائر الممكنة وفي نفس الوقت تحقيق الهدف المعلن لعملياته العسكرية في شمالها وهو منع قيام كيان كردي في خاصرة تركيا وقطع أي تواصل جغرافي محتمل بين الأكراد في المنطقة.
وتحقيق هذا الهدف يبدو بعيدا باستخدام القوة العسكرية، فالقوات التركية باتت تتعامل مع قوات كردية شبه نظامية ومسلحة بشكل جيد وتحظى بدعم غربي وهذا يعقد أي مهمة للقضاء عليها وليس من سبيل إلى ذلك إلا من خلال العمل على تعزيز وحدة سوريا بما يعيد الأكراد إلى صلب الدولة السورية ويقطع الطريق على النزعة الانفصالية وحصر السلاح بيد الدولة وجعل المشكلة الكردية مشكلة محلية تتولى معالجتها الحكومة السورية لا تركيا.
وبحسب تقرير نشره موقع أحوال تركية قبل يومين نقلا عن صحيفة "التركية" المقربة من النظام، فإن "الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره السوري بشار الأسد بات يُمكنهما التحدث عبر الهاتف بعد تهيئة الظروف المناسبة لذلك. ومن المعروف أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعطى أردوغان أيضا توصية في هذا الاتجاه".
وتقول أنقرة إن اللقاء بين أردوغان والأسد سابق لأوانه وهو ما يعطي انطباعا بأن اللقاء ممكن، إلا أن صحيفة "التركية" أشارت إلى تواصل ممكن بين الرئيسين عبر الهاتف.
وسبق للرئيس التركي أن خاض تجربة "دبلوماسية الهاتف" في التعاطي مع أزمات أخرى وهو أمر وارد تطبيقه في حالة التمهيد لتطبيع العلاقات مع سوريا بعد عقد من العداء وحملة قادها أردوغان للإطاحة بالأسد.
وتأتي هذه التطورات بينما تقترب دمشق شيئا فشيء من العودة إلى حضنها العربي واستعادة مقعدها في الجامعة العربية وهو أمر قرأته تركيا مبكرا خاصة مع عودة الدفء للعلاقات السورية الإماراتية ودفع من عدة دول عربية لعدم ترك سوريا فريسة للتمدد الإيراني والتركي.
وقد تلعب دولة الإمارات التي باتت ترتبط بعلاقات وثيقة مع تركيا بعد سنوات من الجفاء والتوترات وأيضا بعلاقات وثيقة مع سوريا بعد إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية، دورا في تهدئة التوتر بين دمشق وأنقرة ووضعهما على سكة المصالحة وهو أمر ربما يرغب فيه أردوغان للخروج من المأزق بعد تدخل عسكري مكلف في شمال سوريا.
والعمل على إغلاق قوس التوتر الذي فتحه أردوغان قبل أكثر من عشر سنوات بات أمرا ملحا في خضم التطورات الجيوسياسية الأخيرة في الوقت الذي تعمل فيه تركيا على ترميم الشروخ التي أحدثها رئيسها في العلاقات الخارجية.