تشارلز تايلور: كوننا في اللغة يعني كوننا في علاقة تشارك

الكتاب المترجم عبر الكاتب والناقد حسام نايل يحمل رؤية متكاملة وفريدة لقدرة وقوة اللغة في مختلف أشكال خطاباتها، وينطلق من قراءات وتساؤلات ونقاشات عميقة لما أنجز بهذا الشأن منذ فلاسفة القرن الثامن عشر حتى الآن.

إن الفرضية الأسياسية في هذا الكتاب "حيوان اللغة.. الشكل الكامل لقدرة الإنسان اللغوية" للفيلسوف الكندي تشارلز تايلور هي أن اللغة لا يمكن فهمها إلا إذا فهمنا دورها التأسيسي في الحياة البشرية. وسعيا إلى تحقيق هذا الهدف حاول شرح هذه القوة التأسيسية للغة من جهة "البعد اللغوي"، حيث تسترشد استعمالات الكلمات أو الرموز، أو الأفعال التعبيرية، بإحساس بالصحة، لا يمكن جعله ببساطة وظيفة للنجاح في بعض المهام "غير اللغوية".
 مؤكدا إن اللغة هي "مجال الحركات الصحيحة والخاطئة، ولكن ثمة دائرية هنا لا يمكن استبعادها، حيث تتطلب الصحة أو الخطأ اللذان نحن بصددهما أن يكونا معروفين في ذاتهما من جهة اللغة، وبذلك نكون في إطار الاتساق الضمني".
يمهد تايلور كتابه الصادر أخيرا عن دار معنى بترجمة الكاتب والناقد حسام نايل، ويحمل رؤية متكاملة وفريدة لقدرة وقوة اللغة في مختلف أشكال خطاباتها، منطلقا من قراءات وتساؤلات ونقاشات عميقة لما أنجز بهذا الشأن منذ فلاسفة القرن الثامن عشر حتى الآن.

هذا الكتاب عن قدرة الإنسان اللغوية، أحاول فيه إيضاح أن هذه القدرة متعددة الأشكال أكثر مما يفترض عادة، أي تتضمن قدرات إبداع المعنى التي تتجاوز قدرة ترميز المعلومات وتوصيلها التي عدت، في الأغلب، شكلها المركزي

ولفت إلى أن "هذا الكتاب عن قدرة الإنسان اللغوية، أحاول فيه إيضاح أن هذه القدرة متعددة الأشكال أكثر مما يفترض عادة، أي تتضمن قدرات إبداع المعنى التي تتجاوز قدرة ترميز المعلومات وتوصيلها التي عدت، في الأغلب، شكلها المركزي".
ويضيف "كان مصدر إلهامي وجهات النظر عن اللغة التي تطورت في ألمانيا تسعينيات القرن الثامن عشر، حيث ازدهرت حيئذ ما نسميه الرومانسية الألمانية. وقد استندت إلى منظرين أساسيين هم: يوهان جورج هامان، يوهان جوتفريد هيردر، فيلهلم فون هومبولت. ومن هنا جاءت تسميتي للنظرية التي أخذتها عنهم بالأحرف الثلاثة الأولى من أسمائهم: "إتش إتش إتش"(نظرية هامان ـ هيردر ـ هومبولت). وأما الحالة المباينة لوجهة النظر تلك فطورها مفكرو الحداثة المبكرة، وهم مفكرون عظام، عقلانيون وتجريبيون، وكانوا مسئولين أيضا عن النظريات الإبستيمولوجية الحديثة المتولدة عن عمل ديكارت، وإن جاءت ضده، أحيانا، بشكل جزئي. 
والشخصيات الرئيسية المبكرة في هذا التقليد ممن استشهد يهم هنا، هم: توماس هوبز، جون لوك، كوندياك. ومن هنا جاءت تسميتي لهذه الحالة المباينة بالأحرف الثلاثة الأولى من أسمائهم: "إتش إل كي" (نظرية هوبز ـ لوك ـ كوندياك).
يرى تايلور أن هذه النظرية تبدو غير متطورة ـ بشكل مستحيل ـ في نظر مفكري القرنين العشرين والحادي والعشرين، ممن تأثروا ـ كما تأثرنا جميعا ـ بفرديناند دوسوسير وجوتلوب فريجه، وإلى حد ما بـ"هومبولت"، بل بقيت بعض افتراضاتها الرئيسية في فلسفة ما بعد فريجه التحليلية، وفي بعض فروع نظرية الإدراك المعرفي أيضا.
 لذا فإن جانبا مهما من واجبي في هذا الكتاب، تفنيد الشذرات المتبقية من ميراث "هامان ـ لوك ـ كوندياك" والنتيجة فيما آمل هي تفسير ما تتألف منه قدرة الإنسان اللغوية، على نحو مرض أكثر، ومن ثم متنوع.
ويوضح أن قصده الأصلي من البدء في هذا المشروع كان استكمال ذلك التطور في النظرية الرومانسية عن اللغة، بدراسة خيوط محددة في الشعرية ما بعد الرومانسية أراها مرتبطة أوثق ارتباط بمشروعي.
 وكنت قد بدأت في هذه الدراسة أواخر ثمانيات القرن العشرين وأوائل تسعينياته، وبسبب انقطاعات عديدة لم أستكمل منها سوء الجزء الأول فقط، بالإضافة إلى مجموعة دراسات متناثرة يمكن أن تساعد في تكوين الجزء الثاني. ومن ثم قررت نشر كتابي هذه القدرة اللغوية، والاستمرار في عملي المتعلق بالرومانسية.
يقول تايلور إن كوننا في اللغة يعني كوننا في علاقة تشارك محتملة مع آخرين، الأمر الذي يربطنا ـ من حيث المبدأ ـ بأي أحد وبكل أحد، بل إننا نعيش ـ عمليا ـ في دوائر أو جماعات محددة، أسرة، قرية، مجتمع سياسي، جماعة دينية أو أخوية.. إلخ، وهي مواقع يتحقق فيها التشارك بشكل مكرر ومنتظم غالبا، بل يقترب من أن يكون متواصلا أو مستمرا. 
أن تمتلك اللغة يعني أن تكون في فضاء اجتماعي، وأن تكون واعيا بأنك فيه. الفضاء الاجتماعي مهم. ونحن نسعى منذ نشأتنا إلى التشارك والحميمية والحب، ولا نتجاوز هذه الحاجة أبدا، حتى وإن ظهرت في حياتنا لاحقا مجموعة علاقات أقل حميمية وانخراطا على المستوى الشخصي، فهي مهمة من نواح مختلفة كبيرة كانت أم صغيرة. بل نحتاج أيضا ـ بوصفنا كائنات لغوية ـ إلى فهم هذه العلاقات: حب، صداقة، أواصر بين المواطنين، أخويات، كنائس، أحزاب، وكل منها له متطلباته ومعاييره. 
ولا يمكننا العيش في هذه العلاقات ونقوم بما تقتضيه إلا بقدر الإفصاح: ما معنى أن تكون صديقا، عاشقا، ومواطنا، وعابدا في جماعة من العباد.. إلخ. في البداية، تعطينا ثقافتنا طريقة التعبير اللفظي هذه، ولكننا نبادر إلى تغييرها أيضا إلى العكس جذريا أو تبديلها، أو تنقيحها وتصنيفها. 
 

كوننا في اللغة يعني كوننا في علاقة تشارك محتملة مع آخرين، الأمر الذي يربطنا ـ من حيث المبدأ ـ بأي أحد وبكل أحد، بل إننا نعيش ـ عمليا ـ في دوائر أو جماعات محددة

ومن الممكن تسمية هذه الافصاحات عن المعاني البشرية "تفسيرات" لا لأنها تنشأ عن أفعال تفسير شخصية، فهي في البداية وفي جانبها الأعظم ليست كذلك، بل لأنها يمكن أن تتغير بمثل هذه الأفعال الشخصية، وذلك أصيل في طبيعتها.
ويتابع "إني أتحدث هنا عن "معان بشرية" وسأتحدث عن "معان متجاوزة للبيولوجي"، ويترابط هذان التعبيران ترابطا وثيقا، ويحتاجان إلى بعض الشرح هنا. ثمة فئة مباينة للمعاني البشرية يمكن وصفها بأنها "معاني الحياة" وهي فئة لها دلالتها وأهميتها عندنا، إلا أننا والحيوانات في هذا الأمر سواء. فمن المهم بالنسبة لنا ـ وللحيوانات ـ حفظ حياتنا، كأن نجد الوسيلة إلى العيش والطعام والمأوى.. إلخ، وأما قضايا كتحديد معنى الحياة أو تلبية متطلبات الحب، فتمسنا وحدنا نحن البشر.
 إن معاني الحياة هي طرائق دلالة يمكن أن تنطوي عليها الأشياء بالنسبة إلى كائن حي أو فاعل يسعى إلى تحقيق أهداف أو أغراض محددة يمكن تحديدها من الخارج، ولو حتى بواسطة كائنات لا تتشارك هذه الأغراض. 
ولذا يمكننا إسنادها إلى الحيوانات أو بعضها إلى بعض، بشكل مستقل عن فهم الذات. وما علينا سوى تحديد حاجات الحيوان وأنماط الفعل ـ صيد فريسة ـ أكل عشب ـ بناء أعشاش ـ التي تلبي بواستها هذه الحاجات. ويمكننا معرفة معاني حياة أخرى، حتى في حالات لا يميزها الحيوان نفسه. فمثلا، نستطيع معرفة أن أفراد نوع محدد يحتاجون إلى بعض العناصر الغذائية في نظامهم الغذائي، رغم أنهم هم أنفسهم لا يتفاعلون بشكل انتقائي واع مع هذه الحاجة. ونحدد معاني الحياة من خلال أساليب حاجة وفعل يمكن تمييزها موضوعيا.
ويشير إلى أن المسألة تختلف بشأن المعاني البشرية أو المتجاوزة للبيولوجي، فهي تتعلق بأهداف وأغراض وتمييزات بين الأفضل والأسوأ، ولا يمكن تحديدها من حيث حالات أو أساليب قابلة للتمييز موضوعيا.
 فإذا كان ما أسعى إليه حياة ذات معنى، أو شعورا عميقا بالسلام، أو اتحادا بالعالم، أو تصالحا مع الأشياء، أو استمتاعا بالتشارك مع أحبائي وما شابه، فإن ما أسعى إليه لا أستطيع إحرازه بأسلوب قابل للتحديد موضوعيا. ومن أجل رؤية ما يكون على المحك هنا، على المرء أن يتعمق في لغى وصف الذات، وأن يتعرف على ما تعنيه حياة كاملة بالنسبة لي (أو لثقافتني بوجه عام) وما أعنيه بشعور السلام وما يتطلبه التشارك العميق. 
ويمكننا صياغة ذلك بالطريقة الآتية: إن لغة المعاني البشرية لا تترجم إلى لغة حالات قابلة للتحديد موضوعيا، حالات يمكن استيعابها من الخارج دون إحالة لا يمكن التعبير من النارحية الخارجية. فالمعاني البشرية تفتح منظورات بشأنا ذواتنا وعالمنا لا يمكن نظمها ببساطة مع معاني الحياة.
ويكشف تايلور أن ثورة جوتلوب فريجه التي واجهت بفطنة رؤية "هوبز ـ لوك ـ كوندياك" والتي كانت أساسا لمعظم الفلسفة التحليلية في القرن العشرين، كان أحد إسهاماتها انتزاع قضية المعنى من حقل سيكولوجية باطن الذهن، وجعلها قضية معيارية عامة مشتركة.
 لقد ساعد فريجه على انهاء النزعة النفسية، وكان إسهامه الآخر الحاسم أن جعل معنى الجملة مركزيا، فهو ليس شيئا يستمد من معاني الكلمات المفردة، بل على العكس في سياق القضية ـ الجملة ـ وحده يوجد ما يستحق اسم المعنى. 
ويلاحظ أن ثورة فريجه بينت أن المعنى اللغوي لا يمكن تفسيره ببساطة بالتركيز على معاني الكلمات المفردة بمعنى أن هذه الكلمات تستعمل للحديث عن هذه الأشياء، بل الحاسم هنا بالأحرى هو معنى التراكيب الوصفية، ومن ثم أفعال الكلام التي نحققها بواسطتها، كالقول التقريري، أو إصدار سؤال، أو إعطاء أمر. وبعبارة أخرى، لابد أن يفهم المعنى اللغوي في سياق أنشطة محددة، ومنها بناء التراكيب الوصفية التي غدت النشاط الأهم فيها، بل امتدت إلى أشياء أخرى "نحن نفعل أشياء بالكلمات". 
إن المدى الذي يصل إليه سياق الأنشطة هذا، والذي بدونه يكون المعنى اللغوي كما نعرفه غير مفهوم، وما يشتمل عليه من أفعال، يظل إحدى القضايا الكبرى في فلسفة القرن العشرين.
ويوسّع تايلور طريقة تفكير الرومانسيين الألمان "هامان، هيردر، همبولت" في نظرية الكلية اللغوية. فاللغة ليست فكرية فحسب، بل أدائية أيضًا، في التصوير الفني والإيماءات ونبرات الصوت والاستعارات وتغيّرات التأكيد والموقف التي تصاحب الكلام. فلغة الإنسان لا تعترف بحدود بين العقل والجسد.
 

'أن تمتلك اللغة يعني أن تكون في فضاء اجتماعي'
'أن تمتلك اللغة يعني أن تكون في فضاء اجتماعي'

 وبينما يلقي تايلور الضوء على القدرة الكاملة لـ"حيوان اللغة"، يلقي الضوء على ماهية الإنسان.
ويرى أن رؤية الشكل الأتم لما تنطوي عليه اللغة من قوة تأسيسية في هذا النطاق من المعاني البشرية وحدوسنا الشعورية بها. أولا لا ينفتح لنا هذا المجال إلا عبر إفصاحات عن شبكات معنى مترابطة فيما بينها؛ وثانيا الاستبصارات الجديدة التي نعيد تشكيل الشبكة لا تثبتها إلا الإفصاحات الجديدة. 
أما نموذج "هوبز ـ لوك ـ كوندياك ـ في استحداث كلمات جديدة فيبدو فعالا بالنسبة إلى ما أسميته الكليات "العموميات" البشرية كالفخر والغضب والحزن والبهجة، فالظاهرة تظهر أولا ثم نعطيها اسما. الأم ترى الطفل يتفاعل وتقول له "لا تكن فخورا" أو لعلها تقول "ينبغي أن تكون فخورا"، ويعرف الطفل أن هذه الكلمة التي تصف ذلك الشعور، على نحو ما تعلم من قبل أن كلمتي "كلب"، و"قط" تسميان هذين الحيوانين.
 وبهذه الطريقة، تبدو تسمية المعنى مماثلة لتسمية الحيوانات أو قطع الأثاث. غير أن هذه الطريقة تتجاهل التأثير الهائل الذي تخلفه تسمية الآباء للانفعالات في تشكيل هذه الانفعالات". وتتجاهل أيضا الطريقة التي تعمل بها المعاني الكلية العامة داخل شبكات أو مشاهد تختلف عبر الثقافات وعبر العصور أيضا كلما تطورت هذه الثقافات وتغيرت.
ويعترف تايلور أن فهم اللغة بل فهم الكلام النثري العادي، يتضمن رؤيته في سياق أداء ذي معنى، ونطاق بأكمله من الأشكال الرمزية. واللغات المتخصصة المقتصدة، المتجردة من المعنى البشري، ربما تكون نموذجا لبعض الأغراض المهمة، ولكن هذه الطرائق المتقشفة لا يمكنها أن تقدم نموذجا للكلام البشري بوجه عام.