تظاهرات العراق: صرخة ضد الفساد والارتهان

أين ذهبت الـ 450 مليارا في الصندوق العام منذ 2004 حكومات متعاقبة أهدرت المال العام وجعلت من العراق الدولة الـ 12 الأكثر فسادا في العالم بحسب ترتيب منظمة ترانسبيرنسي انترناشونال.

بقلم: جويس كرم

الآلاف الذين تجمعوا في ساحات بغداد والناصرية والديوانية والبصرة والنجف وهم يهتفون أناشيد وطنية ويرفعون علم العراق، هم النبض الحي لبلاد الرافدين والصرخة المعبرة ضد فساد سياسي واقتصادي عقيم، جعل خامس أكبر دولة نفطية في العالم ترزح تحت نير الفقر والبطالة.

التظاهرات استمرت لليوم الثاني رغم الطوق الأمني حول "ساحة التحرير" في بغداد والاجراءات المتشددة لتقويض التحركات. رئيس الوزراء العراق أمر بإجراء تحقيق حول أعمال العنف التي أسفرت عن أكثر من مئتي جريح وقتيلين. أحد القتلى هو بحسب مواقع التواصل الاجتماعي، محمد حبيب الساعدي، شاب في مقتبل العمر من مدينة الصدر، تلقى رصاصة في الرقبة.

تحقيق عبد المهدي لن يفيد بشيء طالما أن الأسباب المحركة للتظاهرات يتم تجاهلها، واستمرار الغرق بسياسات ومحاصصات شلت قدرات العراق الاقتصادية في الست عشرة سنة الفائتة، منذ سقوط نظام صدام حسين.

فهل يعقل اليوم أن خامس أغنى دولة نفطية في العالم تواجه عجزا يقارب 24 مليار دولار؟ أين هي عائدات النفط؟ هل يعقل أيضا أن دولة بهذه الثروات تعاني من أزمات كهرباء وخدمات وبطالة تزيد عن 25 في المئة بحسب أرقام البنك الدولي؟

أين ذهبت الـ 450 مليار في الصندوق العام منذ 2004؟ حكومات متعاقبة أهدرت المال العام وجعلت من العراق الدولة الـ 12 الأكثر فسادا في العالم بحسب ترتيب منظمة "ترانسبيرنسي انترناشونال". وفي دولة أكثرها من الشباب ما دون سن الثلاثين، سيكون من الصعب احتواء التظاهرات من دون معالجة هذه الأرقام.

القضية الثانية التي تواجه العراقيين وتدفعهم للتظاهر هي مشكلة الارتهان، وتحول القرارات السيادية للعراق الى إكراميات ومزايدات للقوى الخارجية. فإقالة القادة الميدانيين الذين حاربوا تنظيم داعش ومن بينهم رئيس جهاز مكافحة الإرهاب عبد الوهاب الساعدي هو دليل على هذه العشوائية والتبعية في صنع القرار.

ليس بالغريب أن يبدي المتظاهرون تضامنا مع الساعدي، الذي خاض عشرات المعارك ضد داعش ليجد نفسه، ضحية قرار سري وافق عليه عبد المهدي بإقالته من منصبه.

فمن يستفيد من إقالة الساعدي وإشاعة الفوضى في العراق وإضعاف السلطة المركزية المتضعضعة أصلا في بغداد؟ الميليشيات المدعومة من الخارج وخصوصا إيران كما داعش وخلاياها ورواسبها هم أكبر المستفيدين من تخبط عبد المهدي.

ففي الوقت التي كانت قوى الأمن العراقية تتشابك مع المتظاهرين، كان قائد فيلق القدس قاسم سليماني يتفاخر في مقابلة إعلامية بالتمدد الايراني الميليشياوي من العراق إلى اليمن.

أما أميركا فالتزامها بالعراق ومساعدته بدأ يتراجع وسط أسئلة عن الواقع الاقتصادي والأمني في البلاد. فبعد 16 سنة على الحرب، لا يرى الرئيس الأميركي دونالد ترامب فائدة استراتيجية ضخمة من البقاء في العراق، وهناك أسئلة عن فرص عودة داعش ولو بشكل آخر مع فشل بغداد في إرساء المصالحة والتعاطي مع الواقع الاقتصادي.

إذا كان العراق ينظر إلى لبنان كنموذج ناجح لتوزيع المحاصصات وضمان السلم الداخلي، فنحن أمام أزمة بالغة الخطورة في بغداد.

فالاقتصاد اللبناني على شفير الانهيار للأسباب نفسها التي ارتأت الحكومة العراقية استنساخها في بغداد. والتوزيع الطائفي الخانق في بيروت على حساب الدولة المدنية الذي شرع الأبواب أمام تدخل خارجي في لبنان، هو نفسه الذي يشل قدرات العراق ويجعله ساحة مفتوحة للقوى الإقليمية.

تظاهرات العراق هي صرخة وطنية جامعة للعراقيين ضد عقود الفساد والاستهتار بالمال العام، وضد الارتهان للخارج. نجاحها هو فقط في التعامل مع جذور الأزمة وليس طمرها بتحقيقات للاستهلاك الإعلامي، وتجاهل الأسباب الحقيقية. فالفشل في ذلك سيعني بقاء العراق في دوامة عدم الاستقرار والتجاذب الخارجي الذي أقصى الساعدي ويغرق حكومة عبد المهدي اليوم.

نُشر في شبكة الشرق الأوسط للإرسال