تعويم بشّار الأسد!

عندما تبيّن ان هناك تناقضا كليا بين ايران وإسرائيل في سوريا، صار على بشّار الأسد الاختيار.

هل للنظام القائم مكان في المعادلة السورية الجديدة التي أطرافها روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة؟ من الواضح ان بشّار الأسد قرر الانضمام الى الثلاثي الذي قرر رسم مستقبل سوريا وذلك حماية لنفسه ولضمان البقاء في دمشق، علما ان مصير الرجل سيتحدد في ضوء القدرة على التزام الشروط الإسرائيلية. في مقدّم هذه الشروط الخروج الايراني من الأراضي السورية كلّها وليس من الجنوب السوري فقط. فوق ذلك، سيكون عليه التزام اتفاق فكّ الاشتباك في الجولان الذي وقع في العام 1974 التزاما حرفيا.

كان ملفتا الهجوم الذي شنّه الاعلام التابع للنظام السوري على علي اكبر ولايتي مستشار "المرشد" الايراني علي خامنئي. كان سبب الهجوم قول ولايتي انّ ايران حالت دون سقوط النظام السوري. هذا الكلام اكثر من صحيح. لولا ايران لكانت صفحة بشّار الأسد طويت منذ فترة طويلة. لعبت ايران الدور المحوري، مباشرة وعبر ميليشياتها المذهبية، مثل "حزب الله"، في إبقاء رئيس النظام في دمشق وذلك بين العامين 2011 و 2015. عندما وجدت انّها عاجزة عن متابعة مهمتها، ذهب الجنرال قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الايراني الى موسكو. استنجد بالروس مباشرة بعد تقدّم المعارضة في اتجاه دمشق من جهة وفي اتجاه الساحل السوري من جهة أخرى.

كان للتدخل الروسي المباشر عبر سلاح الجو، الذي تمركز في قاعدة حميميم قرب اللاذقية، في أواخر أيلول – سبتمبر 2015، الدور الأكبر في جعل بشّار قادرا على البقاء في دمشق. من الاسرار التي لا تزال غير معلنة الشروط التي وضعها الرئيس فلاديمير بوتين على بشّار نفسه وعلى الايرانيين في مقابل تدخل سلاح الجو الروسي في كلّ انحاء سوريا بهدف وحيد هو منع انتصار الشعب السوري على جلّاده.

ليس مستغربا ان يتصرف بوتين بالطريقة التي تصرّف بها في ضوء التطلعات الروسية القديمة الي موطئ ثابت في المياه الدافئة. المستغرب ان تعتقد ايران ان روسيا جمعية خيرية وانّها ستكون قادرة على الاستفادة من تدخل قاذفات "سوخوي" لتحقيق مآرب خاصة بها في سوريا. لم تأخذ ايران في الاعتبار ان روسيا لم تكن لتتمكن من حماية بشّار الأسد في دمشق من دون التنسيق الكامل مع إسرائيل.

عندما تبيّن ان هناك تناقضا كليا بين ايران وإسرائيل في سوريا، صار على بشّار الأسد الاختيار. في الواقع، كان هناك دائما، في الماضي، تكامل بين ايران وإسرائيل ما دام هناك التزام من النظام السوري لجهة احترام كلّ الاتفاقات المتعلقة بالجولان.

ما حققته روسيا في الأشهر القليلة الماضية ليس سهلا. استطاعت تفادي حرب مباشرة إسرائيلية – إيرانية في سوريا. كان يمكن لهذه الحرب ان تمتد الى لبنان في حال إصرار ايران على ان يفتح "حزب الله" جبهة الجنوب.

اقنعت روسيا إسرائيل بمتابعة ضرباتها لكل المواقع العسكرية الايرانية في سوريا ولكن من دون الذهاب الى حرب شاملة. في المقابل، لم تستطع روسيا اقناع ايران كلّيا بان لا خيار آخر لديها غير الانسحاب من الأراضي السورية، خصوصا انّ مهمة بقاء بشّار الأسد في دمشق لتنفيذ مهمات معيّنة صارت مهمّة إسرائيلية.

كان على رئيس النظام السوري ان يختار في نهاية المطاف. حاول تفادي هذه الخطوة وتأخيرها قدر الإمكان، خصوصا انّ عواطفه إيرانية واعجابه بـ"حزب الله"، الذي فعل كلّ ما فعله بلبنان واللبنانيين، لا حدود له. هذا الاعجاب المنقطع النظير بالميليشيا المذهبية التابعة لإيران في لبنان موجود منذ ما قبل خلافة بشّار الأسد لوالده في مثل هذه الايّام قبل ثمانية عشر عاما...

من بين ما يدعو الى التأكيد ان بشّار الأسد سعى الى استرضاء ايران، قدر الإمكان طبعا، المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير خارجيته وليد العلّم قبل بضعة أسابيع وأعطى فيه "شرعية" للوجود العسكري الايراني في سوريا. لم يكتف المعلّم، وهو شخص مغلوب على امره، بذلك. انتقد أيضا الجهود الروسية الهادفة الى اعداد دستور سوري جديد. كذلك، نفى وجود اتفاق روسي – إسرائيلي في شأن الجنوب السوري. وقد تبيّن مع مرور الوقت ان هذا الاتفاق روسي- أميركي – إسرائيلي ولم يجد بشّار الأسد بدّا من الانضمام اليه.

لم يعد سرّا ان على هناك دورا إسرائيليا علنيا في تعويم بشّار الأسد. السؤال هل يستطيع رئيس النظام السوري تنفيذ المطلوب من الأطراف الثلاثة المصرّة على العودة الى اتفاق فكّ الاشتباك للعام 1974؟

هناك كلام كثير عن تفاهمات في العمق. في أساس هذه التفاهمات دور لبشّار الأسد يقوم على إعادة تأهيله انطلاقا من الجولان. تتذكّر إسرائيل جيدا ان النظام السوري لم يطلق رصاصة واحدة في الجولان منذ توقيع اتفاق فكّ الاشتباك في العام 1974. لا شيء يمنع اذا، من منطلق هذه التجربة التي عمرها اقلّ بقليل من نصف قرن، من العودة اليها. هذا هو المنطق الإسرائيلي الذي يحظى حاليا بمباركة روسية وأميركية. انّه منطق متماسك يدعمه قول اسحق رابين لياسر عرفات في آخر لقاء عقد بينهما عند معبر اريتز: "لو تعرفت اليك قبل توقيع اتفاق أوسلو (في خريف العام 1993)، لما كنت وقّعت معك ايّ اتفاق. انت لم تحترم يوما توقيعك، في حين احترم حافظ الأسد بدقّة متناهية كلّ الاتفاقات التي عقدناها معه، بما في ذلك الاتفاقات الشفهية". عقد هذا اللقاء قبل أيام من اغتيال رابين في تل ابيب في الرابع من تشرين الثاني – نوفمبر 1995 وقد اعتبر ياسر عرفات كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي دليلا على "وطنيته" وطلب من احد مساعديه تسريبه الى وسائل الاعلام!

لدى البحث في مستقبل سوريا في ضوء الإصرار على العودة الى اتفاق فك الاشتباك، تظهر اوّلا المشكلة الكامنة في انّ بشار الأسد ليس حافظ الأسد. الاهمّ من ذلك ان سوريا التي عرفناها تغيّرت جذريا منذ العام 2011. فوق ذلك كلّه ما الذي ستفعله ايران التي استثمرت كلّ هذه المليارات من الدولارات في "سوريا الأسد"؟ هل تعتبر ان كل هذا الاستثمار كان رهانا على حلم يقظة اسمه "الهلال الفارسي".

وضعت روسيا مع إسرائيل والولايات المتحدة الخطوط العريضة لتسوية في سوريا. من الواضح ان فلاديمير بوتين ودونالد ترامب استطاعا التفاهم على الخطوط العريضة هذه في قمتهما الأخيرة في هلسنكي. تظل الحلقتان الضائعتان بشّار الأسد نفسه وايران. قوّة الخطوط العريضة في انّ الروسي يعرف بشّار جيدا. يعرف نقاط ضعفه وانه لم يعد يمتلك غير الاعتماد على فلاديمير بوتين. امّا ايران، فلا يزال يصعب عليها الرضوخ لما قرره الروسي والأميركي والإسرائيلي في وقت يعرف حكامها جيدا ما هي النتائج التي ستترتب على الخروج من سوريا وما تعنيه هذه النتائج في طهران نفسها. تعرف طهران ان انهيار النظام السوري بدأ لحظة الاضطرار الى الخروج من لبنان في نيسان – ابريل 2005 وان لحظة بداية سقوط نظام الملالي يبدأ لحظة الخروج الايراني ن سوريا.