تفكيك المهزلة الأرضية.. منازلة الجحيم الأرضي

السوري علاء زريفة يقدم في ديوانيْه 'شيطان' و'شوكولا' شعرية متوترة تحوي مجموعة من النصوص الغاضبة التي تخرج من روحٍ تواقة للحرية والتغيير الإيجابي الحاد، ويعيد النظر في التاريخ العام والتاريخ الشخصي والواقع الحالي.

يقدم الشاعر السوري علاء زريفة في ديوانيْه "شيطان": دار الدراويش للنشر والترجمة 2020 و"شوكولا": دار أكورا للنشر والتوزيع 2021، شعريةً متوترةً تحوي نصوصاً غاضبة، تخرج من روحٍ تواقة للحرية والتغيير الإيجابي، الحاد، الذي ترى أن وقته حالاً، فلا تملك بالتالي إلا أن تثور على المواضيع الاجتماعية العقيمة والأسئلة الوجودية المتدافعة طول الزمان بلا إجابة ومن ثَمَّ على البلاغة القديمة.
 فنقابل بالتالي شاعراً منفلتاً من أي تأطير لغوي ومعرفي تسجنه فيه الجماعة البشرية التي ينتمي إليها.. إنه يعيد طيلة الوقت قراءة التاريخ العام، المسيطر عليه وعلى غيره، وكذلك التاريخ الشخصي، معتبراً إياهما، مجرد سرديات أُلقيت علينا من جهة الرواة البعيدين والقريبين على السواء، وأهدافهم الغامضة: "كل الأدوار جاهزة قبيل ميلاد البطل" شوكولا ص.12.
والأصعب والأكثر قسوة كذلك، أنه يعيد قراءة الواقع الحالي وتفاصيله الكثيرة، واقعنا الذي واقعه هو كذلك، الحي والملتهب، الذي يحيط بنا كالشرنقة، أو بالأحرى كالحصار الذي يواصل المُزيِّفون فيه بلا هوادة، خلق وتعليب ونشر آليات الوهم والتلاعب بالعقول، المتعددة والمتشابكة بلا نهاية: "كل ما نراه/وَهمُ بصيرةٍ تحرك شخوصاً من ورق" شوكولا ص 26.

 في خاتمة رحلته الغاضبة، يصل البطل للموت، ليكتشف ويقرر أن هذه الحقيقة الوحيدة، الثابتة والراسخة كما ثبَّتوا في ذاكرتنا، ليست بهذه القوة والجبروت، أو لا ينبغي لها أن تكون، فلا تستحق بالتالي الهالة التي تحطم حياتنا بها
 

إنه يعري برفضه المبدئي قيم الأبوة، ليس فقط بمعناها ومبناها البطريركي المسيطر والقاهر، وإنما يرفضها من الأساس، كخاتم وفرض بيولوجي حتمي، لا محل للإنسان ولا يد في اختياره وتحديده: "حافياً من إسمِي/عارياً من صفات الوراثة/والحثالةِ/من دمي الآدمي" شيطان 98. مثلما ينظر كذلك بعين وروح متشككة ثم رافضة وناقضة لمعاني وآليات الحب القديمة وألعاب الجسد وتسليعه ودراما الحروب البشعة والسياسة وألغازها ومعلومات الكتب واليقين بأنواعه وأشكاله والموت وحركة التاريخ وأطوار الجغرافيا وتحولاتها الخ ويدلل على غضبه ذاك، الذي اِعتَبَرَهُ مبدأً وعقيدةً، اجتباها وارتضاها لنفسه بإزاء كل ما فُرِضَ عليه وعلينا، بالاعتماد على استخدام الأفعال المضارعة على وزن "أفعل" فيقول مثلاً: "أسألُ وأجيب، أُدخِلُ نفسي نفسَها" شوكولا ص 10 -"أكونُ الحبل السُريَّ" شوكولا ص 10 -"أفكر أن أكون غيري" شيطان ص 7- "أتشاجرُ/ مع التراب" شيطان ص 17 حيث إرادة الرفض المسيطرة عليه والخارجة منه، تنفر من دائرة الموقف الذهني البارد والساكن إلى شكل الإرادة الحقيقية القادرة التي تتشكل في الغالب على هيئة أفعال ساخنة وملموسة، يقلب بها صفحة كل ما يراه غريباً وغير مفهوم لصالح ما يتمنى ويحبُ ويُقِرُّ ويختار.
 هذه الأفعال قد تكون كذلك فاتحة لتفكيك المفاهيم وإعادة قراءتها ومساءلتها بمعاييره هو وأولوياته التي يقررها هذه المرة بمعزل عن أصوات القطيع، ومن ثَمَّ إعادة تركيبها من جديد، بشكل وروح أكثر منطقية وإنسانية.
يتساءل الشاعر تارةً بشكلٍ صريح وتارة عن طريق السخرية السوداء، عن صحة الروايات المحكية، عن يقينياتنا وعن دور الوكلاء في صياغة وعينا العام المسيطر وعن أدوار وسطاء السوء المقدسين، في تعرية إنسانيتنا التي كانت بيضاء وصافية: "ما جدوى الوطن؟/أنا بالكاد أتذكر" شيطان ص 8 –"أتشاجر/ مع السماء/أشتم سوادها المتلألئ/سرب دجاليها المهاجر" شيطان ص 18– "ينادي أحدهم في آخِر الصالة: كن رجلاً. أُرفض دخول الجنة وحساب النار فكلاهما (كذبة معدلة بشرط العِلَّة)" شوكولا ص 106،107 إذ لو كان ما حُكي أنه حدث لنا أو معنا أو فينا، قد جرى حقاً بهذه الكيفية المشوهة التي وصلتنا وكونت ذاكرتنا بالتالي، والتي أدت لكل ما نراه من انهيارات لا تكف دوائرها عن الاتساع، على مستوى القيم والعادات والرؤى والتصورات والأفكار والأحلام الخ، لكانت أحوالنا غير ذلك ولكنا بالطبع بشراً آخرين ولكنه التزييف وإرادته المسيطرة والخبيثة: "لو كان التاريخ صحيحاً/ لصدقت نبوءة موسى وعصاه" شوكولا ص 95.
ويقرر كذلك أنه لن يرتجي أبداً، في حال ما إذا قرر أن يمارس حقه في اختيار صنوٍ أو شبيهٍ أو رفيق، كي يُكْمِل رحلته معه، إلا ما تخلَّق عن حبٍ آخر وجديد، طازجاً وكأنه خُلِقَ تواً، غير كل ما يحيط بنا ويعمي عيوننا وقلوبنا وأرواحنا، مما يعتبره، مجرد إيهام فقط بمعاني الحب وتحويراً لأشكال وأنماط الجمال، لكنه الآن لا يريده إلا صادقاً وحقيقياً وليس مُرائياً، يختلف من الجذور عن ذلك الذي صاغته أخلاقنا المصكوكة منذ آلاف السنين: "أحتاجُ امرأةً لا تكون امرأتي دائماً "شيطان ص 30-"لا تنجب لي ولي العهد" شيطان ص 31.
 ثم يمضي في نقضه لكل القيم والأيقونات الاجتماعية والأخلاقية من منبتها حتى الذروة، ذروة تغلغلها فينا وتأثيرها الملموس والقاسي، خالقاً الصدمة التي تؤدي إلى خلخلة الجذور والسيقان والفروع بل وخلعها وتعريضها للرياح التي لا تُبْقِي ولا تَذَر: "أحتاج معبداً للبغاء/ كأمي التي حملت بي/من أب لا أعرفه/لأن الأب/اسم لا أكثر"شيطان 32- "سأؤمن جيداً أن حبيبكِ الأعرج/قد فض بكارتكِ.. واغتصبني" شوكولا 139 - "أحتاجُ أناي اللحظة/أتباهى بزنا أمي بي/مع الله" شيطان 33. 
في خاتمة رحلته الغاضبة يصل البطل للموت، ليكتشف ويقرر أن هذه الحقيقة الوحيدة، الثابتة والراسخة كما ثبَّتوا في ذاكرتنا، ليست بهذه القوة والجبروت، أو لا ينبغي لها أن تكون، فلا تستحق بالتالي الهالة التي تحطم حياتنا بها بالتردد والخوف واليأس، إنها قيمة وهمية، زائفة ومصنوعة من لدن القَدَر ورجاله ووكلاؤه، بغرض السيطرة على قدراتنا وانطلاقنا في دروب الحياة، وبالتالي لا تستحق إلا التجاهل والتهكم: "الموت ليسَ بشيءْ/ الموتُ/ ليس/ بشيءٍ/ يُذْكَر" شوكولا ص 97- "في كل مرة أنتظر الموت، ولا يأتي/ أسألهُ: ألا أستحق دخول النار/منفرداً وأقل خيبة".
 إن الكشف والوصول للمعاني المخبأة وسط الزحام والضجيج والزيف والأوهام، لا يظهر إلا عنده هو، هذا الرائي الذي امتلك القدرة على تحطيم السطوح لصالح الوصول للقلب الحقيقي، في رؤيته ورؤياه هو بالذات، وليس فيما هو معلن ومنتشر ومشهور: "أكتشفُ اليقينَ بعيْنيْن مغمضتين" شيطان ص 8 حيث تتشكل أناه وكينونته باعتبارها هي المعيار وهي الصدق مجسداً :"وحدي من يعرف السر" شوكولا ص 123 أو بالأحرى هي الحقيقة الغُفل، الصافية والنقية، من غير ريشٍ مصبوغٍ بأيدي الكثيرين على مدى الأحقاب: "اكتمَلْتُ فيَّ ولا أحد/لم ألد/ لم أولد/أنا من نفسي/ لنفسي/بنفسي" شيطان ص 95.

'أحتاجُ امرأةً لا تكون امرأتي دائما'
'أحتاجُ امرأةً لا تكون امرأتي دائما'

 في ديوانيه، يقدم الشاعر لغة تتسم في بعض الجمل والصياغات بالمكر، الحاصل من جراء ألعاب التقديم والتأخير وتكوين الصور عن طريق نحت مجازات جارحة حيناً وحيناً شفيفة، ليتحصل القارئ على الدهشة من جراء عدم توقعه الدائم لخطوة الشاعر البلاغية القادمة، كما يقدم الشاعر في جمل شعرية أخرى، ألفاظاً وتراكيب أكثر حدة وتركيباً بلاغياً، لتعبر عن حالة السَأَم التي تَعْبُر بالذات الشاعرة من جرَّاء الأغلب الأعم من ممارسات الحياة والبشر، وكأنما تمثل الكتابة، تمهيداً غاضباً يصل لذروة القوة ثم يهبط ونحن معه بالتدريج، لينضوي الحال تحت حالة السكونية التي تحل فلا يكون هنالك بُدٌ من الوحدة المختارة أو قل المفروضة وبالتالي الانعزال ومن ثَمَّ التفكير في الانتحار مثلاً و الانسحاب التام من المهزلة التاريخية.
 في حالة أخرى، وهي حالة الثورة التي تُوَلِّد غضباً عارماً وموَّاراً، يظل يرتعش ويُسْقِط حمماً بلا نهاية، تبدو هذه الكتابة وكأنها تدعو الذات الشاعرة لتناول سكينٍ حادٍ وضخم لذبح كل ما هو زائف وضاغط على الحياة بكل ما أوتي من قوةٍ يخلقها الغضب المجنون.
 تعبر القصائد عن ثقافة واسعة تنجح في أن تنجو من الوقوع في فخ التثاقف و مجانيته وتنهل الكتابة من عدد كبير من أساطير وحكايات الشرق الأوسط وتعيد تشكيل العالم وفق منظور ذاتي يحفل بالعالم وبالحب ولكنه حزينٌ وغاضبٌ فيتحرك بحرية في الزمان والمكان ليصل في النهاية إلى اليأس وتفضيل العدم مرةً، والقوة الخالقة وإعادة الرسم من جديد، في مراتٍ أخرى.