توماس إريكسون: هل نحن حقا محاطون بالحمقى؟

كتاب "محاط بالحمقى.. الأنماط الأربعة للسلوك البشري" يبحث عن حياة اجتماعية وعملية أكثر سهولة وسلاسة حيث يتناول الأنماط المختلفة للبشر.
الكتاب لا يدّعي أنه شاملٌ كليًّا في ما يتعلق بكيفية تواصلنا كأشخاص، بعضنا مع بعض
إريكسون يرى أنه لا يوجد نظام مثالي

إن السلوك البشري، في معظمه، معقدٌ وغامض. في بعض الحالات، يكون الأشخاص من حولنا حمقى. إن فهم السلوك الإنساني مهمة لا تنتهي أبدًا، وهو مسعى لا نهاية له لمعرفة ما يقبع وراء خيارات الشخص من أسباب ومسببات. من السهل ومن الخطير أيضًا أن تقوم بتصنيف شخص يتصرف بطريقة مختلفة عنك كجاهل أو مخطئ أو حتى غبي. لكن عالم اليوم يتطلب فهمًا أكثر تطورًا نقوم على أساسه بتقييم الشخص وفق نقاط قوته وضعفه. 
وهذا الكتاب "محاط بالحمقى.. الأنماط الأربعة للسلوك البشري" للمؤلف والمحاضر السويدي توماس إريكسون والصادر بترجمة عمر فتحي عن دار صفصافة، يبحث عن حياة اجتماعية وعملية أكثر سهولة وسلاسة حيث يتناول الأنماط المختلفة للبشر، كيف تفهم نفسك وتفهم الآخرين، لتتمكن في النهاية من التعامل مع من حولك بشكل أفضل وأكثر فاعلية.
يرى إريكسون أنه لا يوجد نظام مثالي مؤكدا أن كتابه هذا لا يدّعي أنه شاملٌ كليًّا في ما يتعلق بكيفية تواصلنا، كأشخاص، بعضنا مع بعض. لا يوجد كتاب يمكن أن يفعل ذلك، لأن عدد الإشارات التي ننقلها باستمرار إلى من حولنا لا يتناسب مع حجم أي كتاب. وحتى لو تمكنا من إدراج لغة الجسد، والاختلافات في الحوار بين الذكور والإناث، والاختلافات الثقافية، وجميع الطرق الأخرى لتحديد الاختلافات في التواصل، فلن نتمكن من كتابة كل شيء. إذ يمكننا إضافة الجوانب النفسية، وعلم الخط، والعمر، والتنجيم، ولن نحصل على صورة كاملة بنسبة 100٪. 
ووفقًا للمجلة الأميركية لتعليم إدارة الأعمال "يوليو/ أغسطس 2013"، تم إجراء أكثر من 50 مليون تقييم باستخدام أداة ديسا DISA. ومع ذلك، ومع كل هذه المعلومات، يبقى التواصل موضوعًا محيرًا ومشوقًا. فالناس ليسوا جداول بيانات. لا يمكننا حساب كل شيء. فنحن معقدون للغاية بحيث لا يمكن وصفنا بالكامل. وحتى أصغر طفل هو أكثر تعقيدًا بكثير من أي شيء يمكن وصفه في كتاب. ومع ذلك، يمكننا تجنب الأخطاء الفادحة عن طريق فهم أساسيات التواصل البشري.

تعلم الجزء النظري لا يجعلك شخصًا ذا قدرة تواصلية من الطراز الرفيع. فقط عندما تبدأ في استخدام هذه المعرفة، يمكنك تطوير كفاءة حقيقية وفعّالة في هذا المجال. تمامًا مثل تعلم ركوب الدراجة؛ حيث يكون عليك ركوب الدراجة أولًا. وعندها فقط ستدرك ما يتوجب عليك القيام به

يجيب إريكسون عن عشرات التساؤلات من نوعية: لماذا نحن على ما نحن عليه؟ كيف تتعرف على الشخص القيادي الحقيقي وتتجنب الوقوف في طريقه؟ كيف تتعرف على الشخص الذي أصبح يحلق في الخيال وكيف تعيده إلى الواقع؟ لماذا يكون التغيير صعبًا للغاية، وكيف نتعامل معه؟ تعلُّمُ أشياء جديدة: كيف تستخدم ما تعلمته؟ لماذا تكون الطريقة التي تتحرك بها مهمة: كيف تبدو حقًّا؟ كيف تفهم كل شخص تلتقيه؟ كيف تتعامل مع الحمقى "أي، كل شخص ليس مثلك؟" وغيرها.
ويحكي في مقدمته الدوافع والأسباب التي دفعته إلى كتابه هذا، يقول "كنت في المدرسة الثانوية، عندما لاحظت لأول مرة أنني أكون متوافقًا مع بعض الأشخاص أفضل من البعض الآخر. كان من السهل التحدث مع بعض أصدقائي. ففي أي محادثة، كنا نجد دائمًا الكلمات المناسبة وكل شيء كان يتدفق بسلاسة. لم يكن هناك أي صراعات، وكنا نحب بعضنا بعضًا. أما مع الآخرين، كان كل شيء يسير بشكل خاطئ. ما كنت أقوله كان يقع على آذان صماء، ولم أستطع فهم السبب. فلماذا كان التحدث إلى بعض الناس بهذه السهولة بينما كان الآخرون حمقى تمامًا؟ عندما كنت صغيرًا، بالتأكيد لم يكن هذا شيء يشغلني كثيرًا. ومع ذلك، ما زلت أتذكر الحيرة التي كانت تنتابني حول سبب تدفق بعض المحادثات بشكل طبيعي بينما لا تبدأ بعض المحادثات الأخرى على الإطلاق؛ بغض النظر عن الطريقة التي أجريها بها. كان أمرًا غير مفهوم وبدأت باستخدام طرق مختلفة لاختبار الناس. حاولت أن أقول نفس الأشياء في سياقات مماثلة لمجرد رؤية رد الفعل الذي أحصل عليه. في بعض الأحيان كان ينجح الأمر فعلًا وتحدث مناقشة مشوقة. في مناسبات أخرى، لم يحدث شيء على الإطلاق. كان يحدق الناس في وجهي كما لو كنت من كوكب آخر، وأحيانًا كان الأمر يبدو كذلك حقًّا".
ويتابع "عندما نكون صغارًا، فإننا نميل إلى التفكير في الأشياء ببساطة شديدة. إذ لأن بعض الأشخاص في دائرة أصدقائي كانوا يستجيبون بطريقة طبيعية، فقد كان ذلك يعني، بطبيعة الحال، أنهم كانوا الأشخاص الجيدين تلقائيًّا. وهكذا افترضت أن هناك شيئًا ما خاطئًا في الأشخاص الذين لم يفهموني. فما التفسير الآخر الذي يمكن أن يوجد؟ لقد كنت نفس الشخص طوال الوقت! بعض الناس فقط بهم شيء خاطئ. لذلك بدأت ببساطة في تجنب هؤلاء الناس الغريبين المعقدين لأنني لم أفهمهم. أطلِق عليها اسم سذاجة الصغار إن شئت، لكنها تسببت في بعض العواقب المسلية. أما في السنوات اللاحقة، فقد تغير كل هذا".
ويضيف إريكسون "استمرت الحياة في العمل والأسرة والحياة المهنية، وواصلت تصنيف الناس إلى مجموعتين: أُناس جيدين وعاقلين وبقية الناس، الأشخاص الذين لا يبدو أنهم يفهمون أي شيء على الإطلاق. وعندما كنت في الخامسة والعشرين من عمري، قابلت رجلًا كان يعمل لحسابه الخاص يُدعى "ستور". أسس"ستور"، الذي هو الآن في الستينيات من عمره، عمله الخاص وقام ببنائه على مر سنوات عديدة. تم تكليفي بإجراء مقابلة معه قبل تنفيذ مشروع جديد. بدأنا نتحدث عن كيفية عمل الأشياء في منظمته. أحد التعليقات الأولى التي أدلى بها ستور هو أنه كان محاطًا بالحمقى. أتذكر أنني ضحكت في ذلك الوقت لأنني اعتقدت أنها كانت مزحة. لكنه كان يعني حقًّا ما قاله. واستشاط غضبًا بينما كان يوضح لي أن الأشخاص العاملين في القسم "أ" كانوا حمقى جميعهم. أما في القسم "ب"، فستجد البُلهاء الذين لا يفهمون شيئًا على الإطلاق. ذلك وهو لم يأتِ بعد إلى القسم "ج"! الذين كانوا الأسوأ على الإطلاق! لقد كانوا غريبين للغاية لدرجة أن ستور لم يتمكن من فهم كيف أنهم قد نجحوا حتى في الذهاب إلى العمل في الصباح".
ويشيؤر إلى أنه "كلما استمعت إليه أكثر، أدركت أن هناك شيئًا غريبًا جدًّا حول هذه القصة. سألته إذا كان يعتقد حقًّا أنه محاط بالحمقى. نظر ساخطًا في وجهي وأوضح أن عددًا قليلًا جدًّا من موظفيه هم من لهم قيمة ويستحقون البقاء. لم يكن لدى ستور مشكلة في السماح لموظفيه بمعرفة ما كان يشعر به. فهو كان لا يتردد في نعت أي شخص بالأحمق أمام الشركة بأكملها لأقل الأشياء. وكان نتيجة ذلك أن موظفيه تعلموا تجنبه. لم يجرؤ أحد على عقد اجتماعات فردية معه؛ وكان يجب ألا يسمع أبدًا الأخبار السيئة لأنه كان يصب جام غضبه على من يبلغه بتلك الأخبار. لدرجة أنه في أحد المقرات، تم تركيب مصباح تحذير عند مدخل المبنى. تم وضع المصباح في مكان خفي فوق مكتب الاستقبال، وكان يصبح لونه أحمر عندما يكون ستور هناك ويتحول إلى اللون الأخضر عندما يرحل. كان يعلم الجميع بهذا. ليس فقط الموظفون بل العملاء أيضًا كانوا يلقون نظرة خاطفة على الضوء لمعرفة ما ينتظرهم عندما يتخطون العتبة. وإذا كان الضوء أحمر، فسوف يتراجع بعض الناس ببساطة إلى الباب، ويقررون العودة في وقت مناسب".

علم النفس
توماس إريكسون

ويلفت "كما نعلم جميعًا، عندما تكون شابًّا، فأنت تكون مليئًا بالأفكار الرائعة. لذا طرحت السؤال الوحيد الذي يمكنني التفكير فيه: "من قام بتعيين كل هؤلاء الحمقى؟" عرفت، بالطبع، أنه هو من قام بتعيين معظمهم. ما هو أسوأ من ذلك هو أن ستور فهم بالضبط ما أعنيه ضمنيًّا. إن ما سألته ضمنيًّا هو: من هو الأحمق بالفعل؟ طردني ستور. وفي وقت لاحق، قيل لي إن ما أراد فعله حقًّا هو جلب بندقية وإطلاق النار عليّ. جعلتني هذه الحادثة أفكر. كان هناك رجل سيتقاعد قريبًا. وكان من الواضح أنه رجل أعمال ماهر، يحظى باحترام كبير بسبب معرفته القوية بمجال عمله الخاص. لكنه لم يستطع التعامل مع الناس. لم يفهم المورد الأكثر أهمية وتعقيدًا في أي منظمة؛ أي الموظفين. وأي شخص لم يستطع فهمه كان بالنسبة له مجرد أحمق.
 ويوضح إريكسون "بما أنني كنت من خارج الشركة، كان من السهل أن أرى مدى خطأ تفكيره. من المؤكد أنه لم يدرك دائمًا أنه يقارن الأشخاص بنفسه. كان تعريفه للحماقة ببساطة هو أي شخص لم يفكر أو يتصرف مثله. لقد استخدم التعبيرات التي كنت أستخدمها أيضًا مع أنواع معينة من الناس: "ثرثار متكبر"، "بيروقراطي أبله"، "وغد وقح"، "غبي ممل". وعلى الرغم من أنني لم أطلق أبدًا على أي شخص كلمة أحمق، على الأقل ليس بطريقة يمكنه سماعي بها، فقد كان لدي مشاكل واضحة مع أنواع معينة من الناس.. لقد كانت فكرة مروعة تمامًا أن أعيش حياتي معتقدًا دائمًا أنني محاط بأشخاص كان من المستحيل العمل معهم. لقد كانت تجعل إمكاناتي الخاصة في الحياة محدودة بشكل لا يصدق".
ويقول "حاولت أن أرى نفسي في المرآة. كان القرار سهلًا. لا أريد أن أكون مثل ستور. بعد لقاء هدّام وسلبي للغاية معه ومع بعض من زملائه المؤسسين، جلست في السيارة مع شعوري بغصة في بطني. كان الاجتماع كارثة تامة. كان الجميع غاضبين. لقد قررت، في ذلك المكان والزمان، أن أتعلم ما يمثل أهم معرفة على الإطلاق؛ أي كيف يتصرف الناس. بالتأكيد كنت سأواجه أشخاصًا لبقية حياتي، بغض النظر عن مهنتي، وكان من السهل أن أرى أنني سأستفيد كثيرًا من خلال القدرة على فهمهم. بدأت على الفور في دراسة كيفية فهم الأشخاص الذين يبدون في البداية معقدين للغاية. لماذا يصمت بعض الناس، بينما لا يتوقف الآخرون عن الكلام، لماذا يقول بعض الناس الحقيقة دائمًا بينما لا يفعل البعض الآخر ذلك أبدًا؟ لماذا يصل بعض زملائي دائمًا في الوقت المحدد، بينما نادرًا ما يتمكن الآخرون من ذلك؟ بل وحتى لماذا أحب بعض الناس أكثر من الآخرين؟ كانت الرؤى والأفكار التي اكتسبتها رائعة، ولم أعد نفس الشخص الذي كنته منذ أن بدأت هذه الرحلة. لقد غيرتني المعرفة التي اكتسبتها كشخص، وكصديق، وكزميل، وكابن، وكزوج وأب لأطفالي".
في ضوء هذه الرؤية التي قدم بها إريكسون كتابه فإن الكتاب يدور حول ما هي على الأرجح أكثر الطرق استخدامًا في العالم لوصف الاختلافات في التواصل الإنساني. تسمى هذه الطريقة نظام ديسا DISA؛ وهي اختصار يرمز للهيمنة Dominance والتأثير Inducement والخضوع Submission والقدرة التحليلية Analytic ability. هذه المصطلحات الأربعة هي أنماط الشخصية الأساسية، التي تصف كيف يرى الناس أنفسهم في علاقتهم ببيئتهم. يرتبط كل نمط من هذه الشخصيات بلون: الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق. يُطلق على هذا النظام أيضًا نظام DISC، حيث يشير الحرف الأخير للاختصار إلى الامتثال Compliance بدلًا من القدرة التحليلية. لقد استخدمتُ أشكالًا مختلفة من هذه الأداة لأكثر من عشرين عامًا مع نتائج ممتازة. لكن كيف تصبح حقًّا ماهرًا في التعامل مع أنواع مختلفة من الناس؟ هناك، بالطبع، أساليب مختلفة. الطريقة الأكثر شيوعًا هي البحث في الأمر وتعلم الأساسيات. لكن تعلم الجزء النظري لا يجعلك شخصًا ذا قدرة تواصلية من الطراز الرفيع. فقط عندما تبدأ في استخدام هذه المعرفة، يمكنك تطوير كفاءة حقيقية وفعّالة في هذا المجال. تمامًا مثل تعلم ركوب الدراجة؛ حيث يكون عليك ركوب الدراجة أولًا. وعندها فقط ستدرك ما يتوجب عليك القيام به.