تونس.. لعبة الدين والسياسة والمال

حصر الدعاية الدينية في وسائل الإعلام العمومي ففي تونس اليوم قنوات واذاعات ومجلات وكتب وجمعيات وأحزاب تعيش من التجارة الدينية كما قرار حصر إسناد إجازات إحداث واستغلال القنوات التلفزيوينة والإذاعية الدينية للإعلام العمومي دون سواه.

بقلم: فريد العليبي

    انتشر في تونس استعمال الدين في الاشهار التجاري والدعاية السياسية على نطاق واسع، ومع اقتراب الانتخابات تعيش البلاد ما يشبه حمى توظيف الدين في الاقتصاد والسياسة والثقافة الخ.. ولم تعد المشكلة متعلقة بحوادث منعزلة وانما بظاهرة مكتملة الأركان، حيث أفراد يتعاطون مهنة، وربما أصبحوا يشكلون فئة اجتماعية تلتقي مصالحها في التكسب الديني، فهم قوة مالية أكثر من كونهم قوة دينية، تراكم الأرباح الوفيرة من استثمار المقدس، وقد نحتاج اقتصادا سياسيا لفهمها .

يشتد ساعد هؤلاء مع مرور الوقت، وهم لا يهتمون بنقد ممارساتهم والتشهير بها ، فتلك دعاية مفيدة لهم ، ولكنهم يرون الخطر في محاسبتهم على ثرائهم، عندما يسألون عن الأموال التي جمعوها في رمشة عين، وهم يستمدون قوتهم من ثقة الناس بهم، الذين يصرفون لأجل ذلك أموالا طائلة ، رغم فشلهم في تقديم أية حلول. وقبل أيام توفيت امرأة في بنزرت وأزهقت روحها وهي تداوى بالرقية الشرعية، وهناك حوادث كثيرة أخرى، حتى أنه لا يكاد يمر عام دون تسجيل البعض منها.

وبلغ من استفحال الظاهرة حد تنبيه الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري المعروفة اختصارا بالهايكا إليها، واتخاذها جملة من القرارات يوم 10 جوان 2019، مثل: حصر الدعاية الدينية في وسائل الإعلام العمومي، ففي تونس اليوم قنوات واذاعات ومجلات وكتب وجمعيات وأحزاب تعيش من التجارة الدينية، كما قرار حصر إسناد إجازات إحداث واستغلال القنوات التلفزية والإذاعية الدينية للإعلام العمومي دون سواه. وأعلنت الهيئة أنها قرر استنادا إلى ما قالت أنه تقارير لمرصدها، وتحسّبا لظاهرة تفشي استعمال الدين في الإشهار، منع توظيف آيات القرآن والأحاديث النبوية في الاتصال التجاري، في محاولة للحد من تلك الظاهرة، غير أن هذه القرارات على أهميتها لا يمكنها استئصالها، فهي تحتاج مواجهة شاملة ، سياسية وقانونية وثقافية الخ.

ومن أساليب هؤلاء الذين لا تكاد تخلو منهم مدينة أو قرية، استعمال آيات وأحاديث نبوية، وابداء مظاهر الورع والتقوى، من لباس وصلوات وألقاب وبخور وتراتيل، فتلك وسائل انتاجهم للتأثير في القراء والسامعين، ومن ثمة جني الأرباح، فهم يستعملون القليل من المال لجلب الكثير منه، في تجارة رابحة لا تتطلب غير الخداع والمخاتلة، حتى أن بعض العارفين نسج على منوالهم، فأصبح من شيوخهم، وهو يضحك في سره. وتلك تجارة قديمة جدا حتى أن القرآن نهي عنها بالقول: "وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا "، أما على ابن أبي طالب فقد قال عن أصحابها إنهم ناعقين يتبعهم الهمج والرعاع، يستعملون الدين طلبا للدنيا، بينما نبه أول فلاسفة العرب أبو إسحاق الكندي الى مضار تجارتهم فمن يتاجر بشيء يبيعه، ومن يتجار بالدين يستعمله كبضاعة قابلة للعرض والطلب والبيع والمبادلة .

إن المتاجرين بالدين كثيرون، فهم دول وجماعات سياسية وأفراد وشركات، وعلى خلاف ما هو شائع فإن تلك التجارة ليست من اختصاص الإسلام السياسي والتجاري وحده، وإن كان هو أبرز متعاطيها، بل غيره أيضا، وكثيرا ما تستعمل الديمقراطية السياسية لذلك الغرض. وإذا كان هؤلاء في البلدان المتطورة اقتصاديا وعلميا وتقنيا قذ فقدوا تلك الوظيفة، فإنهم في البلدان المتخلفة في تلك المجالات يجدون حاضنة شعبية، فالغاية من نشاطهم الدعوي الربح، والوسيلة هي الدين، وأصحاب النوايا الطيبة هم ضحاياهم، الذين يقودونهم الى جهنم الأرضية والسماوية بسلاسل ذهبية  

كثيرا ما يقول شيوخ الإسلام أنه لا كهنوتية فيه، مقارنة بغيره من الأديان، خاصة المسيحية، التي عرفت تجارة صكوك الغفران وغيرها من أشكال الاتجار الديني، الا أن التاريخ الإسلامي ملئ بتلك التجارة، ولا يفعل تجار الدين المعاصرون غير إحياء تجارة أسلافهم ابتغاء المال. بما يذكر ببيت المعري الشعري: لا تطيعن قوما ما ديانتهم/ إلا احتيال على أخذ الأتاوات .

كاتب تونسي