ثلاثة إسلامات: ثلاث جبهات إقليمية

الإسلام السياسي الشيعي المتمثل بشكل أساسي بحزب الدعوة الإسلامية للاصطفاف مع الإسلام الشيعي الإيراني في حين بدأ الإسلام السياسي السني الذي أظهر في بداية الأمر تعاطفا مع الخمينية إلى الابتعاد تدريجيا عنها وصولا إلى الضدية البينية.

بقلم: جعفر المظفر

في الحالتين التركية والإيرانية، الدولتان على صلة بتجارب تاريخية كبيرة بالمقياس الإمبراطوري. الأتراك من ناحيتهم، وخاصة إسلامهم السياسي على علاقة روحية بتجربة الإمبراطورية العثمانية ومن حقهم أن يعتبروا أنفسهم أصحاب العلاقة الأقوى بتلك التجربة، وهم هنا إسلاميون وقوميون في ذات اللحظة، وقادرون بالدرجة الأولى على تفعيل العلاقة ما بين الذاتي والموضوعي، اي ما بين ذات الحزب والذات الوطنية للدولة.

الإيرانيون كذلك يشعرون بكل تأكيد بأنهم الأقرب سياسيا وحتى فكريا من موضوعة الأمة أو الإمبراطورية، الصفوية منها أو تلك السابقة على الإسلام، والإيرانيون الإسلاميون هنا، كما هم الاتراك، إسلاميون وقوميون في الوقت نفسه.

على الجانب العربي لا يملك أي قطر الآن أفضلية علاقة بالدولة العربية القديمة.

حتى السوريون أو العراقيون فهم لا يملكون مقومات ادعاء القربى مع التجارب القومية العربية السابقة كالأموية والعباسية. على النقيض حزب الدعوة وبقية الشلة السياسية الشيعية العراقية يعتبرون الإمبراطورية العباسية معادية لعقيدة ونهج آل البيت. قطع رأس تمثال أبي جعفر المنصور مؤسس مدينة بغداد، وربما محاولة تغيير اسم شارع الرشيد وغيرها هي حالات تعبر عن هذه الكراهية المتأصلة.

حينما تمكن أية الله الخميني من تصدر حركة تغيير النظام الشاهنشاهي فقد وضع لنفسه مهمة تغيير طبيعة النظام وليس مهمة القضاء على الدولة الإيرانية. لقد كان الصراع بينه وبين الشاه قد جرى من داخل ساحة تلك الدولة الإيرانية لا من خارجها، أما جوهر الصراع فقد كان يدور حول إسقاط نظام الشاه وليس حول إسقاط الدولة الإيرانية.

الحركات السورية الإسلامية التي تتبع المذاهب الأربعة، غير متحمسة أو غير متشجعة على الانتساب للدولة الأموية والاعتداد بها. بل ان الإمام (أبو حنيفة)، وهو الإمام السني الأكثر أتباعا في مشرقنا العربي، يعتبر معاديا للتجربة الأموية

أما العامة من السنة فيعتبرون الجرائم التي ارتكبت من قبل الدولة الأموية ضد آل البيت مدعاة للاشمئزاز والإدانة لتاريخ الدولة الأموية ذاتها بما يجعل مهمة تفعيل عملية الانتساب السياسي لها أمرا ضعيف الاحتمال وغير منتج بالمرة.

إن هذه الصلة السلبية، أو على الأقل غير القابلة للتفعيل بين الحركات الإسلامية العربية، بشقيها الشيعي والسني، مع الأمم العربية السابقة، يخفف إلى حد كبير، بل ويعدم كل فرص التفعيل الإيجابي ما بين التاريخي والمستقبلي.

إن التفتيش عن تجربة إسلامية سياسية عربية ذات انتساب قومي عروبي، سيبقى يصب هنا في الحاجة إلى أن يمتلك إسلام من هذا النوع مقومات ألا يقع في أسر التبعيات وليس لهدف أن يمتلك خصوصيات السيرورة القومية.

لكنا انتقال الحكم الإسلامي إلى العثمانيين، وفي مقابله قيام حكم إيراني صفوي ذا تطلعات إمبراطورية في ظل تمزق وتخلف عربي استمر لسبعة قرون تلاه تأسيس دول عربية صغيرة ومتفرقة تابعة بعد الحرب العالمية الأولى قد أدى من جانبه إلى خلق فرص لاستمرار كيانين تركيين وإيرانيين قويين ومتماسكين على صعيد جغرافي واجتماعي في مقابل دول عربية صغيرة ومبعثرة تكاد بالكاد أن تعثر على هوياتها السياسية.

أما على صعيد الداخل العربي فقد أدت الصراعات المذهبية إلى طغيان الهويات الثانوية ومنها الطائفية على هوية الدولة الوطنية، بحيث صار بالإمكان تقسيم "مجتمعات" هذه الدول حسب هوياتها الطائفية "بخاصة دول المشرق العربي" وتشجيع اصطفافاتها الإقليمية على اصطفافاتها الوطنية "وبخاصة في العراق ولبنان"، وقد تبع الإسلام السياسي العربي خارطة التشرذم الجغرافي والمذهبي فأنتج حالته المنقسمة وحتى المتقاتلة مع بعضها.

في الوقت نفسه كان الظرف الموضوعي المتماسك، التركي والإيراني، قد كفل تجديدا للحالة الإسلامية المتماسكة في كلا البلدين، لكنه كفل أيضا وجودهما كخصمين متنازعين على مناطق النفوذ الإقليمية الأمر الذي أدى إلى تحريك المحيط الإقليمي باتجاهات طائفية متصارعة، حتى إذا ما حل عام الثورة الإسلامية ضد الشاه في إيران فقد رأينا كيف تم استقبال تلك الثورة عربيا.

في العراق الملاصق لم يصمد التماسك الوطني طويلا، إذ سرعان ما أسرع الإسلام الشيعي المتمثل بشكل أساسي بحزب الدعوة للاصطفاف مع الإسلام الشيعي الإيراني في حين بدأ الإسلام السني، الذي أظهر في بداية الأمر تعاطفا مع الخمينية، إلى الابتعاد تدريجيا عنها وصولا إلى الضدية البينية.

سريعا توزع الموقف السياسي الإقليمي على ثلاثة جبهات إقليمية. الإسلام السياسي الإيراني مقابل نده التركي، وهما حالتان تمتلكان خصوصية التماسك التاريخي القومي والمذهبي مقابل إسلامات عربية متشرذمة مذهبيا وجغرافيا ميالة إلى الخصومة المذهبية المدعومة بتاريخ حافل من النزاعات والحروب.

أما المسألة الأهم الواجب التوقف أمامها فهي ان الإسلام العربي تاريخيا هو إسلام تتنازعه المذاهب والمدارس الفقهية المتنازعة والمتناسلة. في المقابل لم يشهد الإسلام التركي والإيراني هذا النوع من النزاعات، فالحالة القومية والوطنية، التركية والإيرانية سبقت الحالة الإسلامية ووضعتها في خدمتها، وبمعزل عن التشتت والمواجهات المذهبية استطاع إسلام الدولة أن يتناغم ويتجانس ويتفاعل مع الحالة القومية المتغلبة في كل من البلدين، التركي والإيراني، في حين احتلت الحركات الإسلامية العربية موقع الخصومة مع الحالة الوطنية أو القومية وموقع التابع لأحد البلدين.

كاتب وطبيب عراقي