ثلاثون عاما على فضيحة ووترجيت، ولا تزال حديث اميركا

إيمور ليهمان كان أحد زراع الفراولة في منطقة التلال المتدرجة بجنوب بنسلفانيا عندما بدأ سقوط الرئيس الاميركي الاسبق ريتشارد نيكسون من منصب الرئاسة.
وكان ليهمان القوي البنية، من الجمهوريين المتدينيين المؤيدين للرئيس نيكسون، ويعيش على بعد 100 كيلومتر فقط من البيت الابيض، إلا أنه يتبع نمط حياة يجعله كمن يعيش على بعد عدة سنوات ضوئية من ذلك البيت.
ومع بداية تحقيقات الكونجرس في فضيحة ووترجيت عام 1973 تخلى ليهمان وهو يشعر بالحزن، عن عهد كان قد قطعه على نفسه بألا يتعامل طيلة حياته مع وسائل الاعلام المستحدثة وأقدم على شراء جهاز تليفزيون أبيض وأسود لمشاهدة جلسات الاستماع التي يتم بثها.
وبينما كان ليهمان يشاهد ما يتكشف عن الطبيعة الحقيقية للرجل الذي منحه ثقته، الرئيس نيكسون، كان يهز رأسه متعجبا ويقول "لا أستطيع أن اصدق ما يقال".
وكغيره من العديد من الشخصيات التي شهدت أكبر هزة سياسية أميركية في القرن العشرين، توفي ليهمان. ولكن وبحلول يوم 17 حزيران/يونيو 2002، الذي يصادف الذكرى الثلاثين لما بدا للوهلة الاولى سرقة بسيطة في مكتب الحزب الديمقراطي بمجمع ووترجيت الكائن بمدينة واشنطن، يظهر أن آثار تلك الفضيحة مازالت ملموسة.
وقد استقال نيكسون من منصبه في عام 1974 قبل أن تتاح الفرصة للكونجرس للتصويت على قرار بسحب الثقة منه، وكان بذلك أول رئيس أميركي يتنحى عن السلطة في تاريخ الولايات المتحدة.
وكان من المحتمل أن يظل نيكسون في منصب الرئاسة ما لم تقم صحيفة الواشنطن بوست بتجاوز القواعد الصحفية فيما كشفت عنه من صلات مباشرة للبيت الابيض بالسرقة وغيرها من الاثام والحيل السياسية القذرة.
وقد استعان مندوبا الصحيفة بوب وودوارد و كارل بيرنشتين بمصدر لم يفصحا عن هويته مطلقا وإن كانا قد أسمياه في مرحلة تالية "الحنجرة الغامضة"، للكشف عن الدراما التي خلبت العقول لرئيس مولع بالسيطرة والسلطة تجاوز القانون والقواعد الاخلاقية التي ينبغي التحلي بها.
وكان الجديد فيما نشراه هو استخدام مصادر لم يحددا هويتها، وهو تكتيك جعل من السهل على الصحف الاخرى التشكيك في مصداقية ما كتباه. وقد استغرق الامر عدة شهور قبل أن تقدم الصحف المنافسة مثل نيويورك تايمز، وثم الاهم وهو الكونجرس، بوقفة للتحقق فيما أوردته الواشنطن بوست.
ولكن ومع تكشف الحقائق، شرع الكونجرس في شن هجوم طويل على إمبراطورية الرئاسة، بادئا بالمعركة الضخمة حول لجنة مستقلة للتحقيق مع نيكسون، وكذلك سن قوانين جديدة تحكم جمع الاموال لاغراض سياسية، وإصلاح الاوضاع بشكل يمتد لفترة التسعينات التي شهدت فضيحة بيل كلينتون ومونيكا لوينسكي.
وكان لفضيحة ووترجيت تأثير إيجابي من نواح عديدة على تطور الحياة السياسية الاميركية، حيث أحدثت ما يرى البعض فيه حدا من السلطات التنفيذية كان قد طال انتظاره.
ولكن من ناحية أخرى، فأن الرأي العام الاميركي لم ينس مطلقا ما أقدم عليه نيكسون من إساءة لاستخدام السلطة. لقد بذرت ووترجيت بذور الشك والريبة في حكومة ضخمة مما أعاق الكثيرين من العمل في الحكومة، وقللت اهتمام آخرين بالمشاركة ولو في أدني صورها في عمليات الاقتراع.
وفي عام 1977 وخلال لقاء تلفزيوني مع ديفيد فروست، تناول نيكسون القضية وأقر بأن من أكثر ما يبعث على الاسى في نفسه فيما يتعلق بفضيحة ووترجيت هو ما خلفته من أثر منفر على الشباب "المثالي" الذين يأملون في إحداث تحول داخل المجتمع من خلال العمل في الحكومة.
ومن بين الرجال الذين لعبوا دورا حيويا في إسقاط نيكسون، جون دين مستشار الرئيس الذي كلف بمهمة إدارة عمليات التغطية على الفضيحة من داخل البيت الابيض. فبعد أن اجبر على الاستقالة، انشق عن الصف وأدلى بشهادته أمام الكونجرس حول تفاصيل تلك العمليات وقال أنه حذر نيكسون من أن هناك ما يشبه "السرطان" الذي يحيط بالرئاسة.
وقد قام دين بنشر أحدث كتبه الذي يحمل عنوان "الكشف عن الحنجرة الغامضة: أكثر المصادر الاخبارية المحيرة في التاريخ" على موقع الانترنت سالون.كوم.
وقال دين الذي كان عمره 31 عاما عندما تفجرت فضيحة ووترجيت، خلال لقاء مع الموقع أن محاولة الكشف عن هوية "الحنجرة الغامضة" منذ ذلك الوقت أمر "لا يخلو من التسلية".
ولقد أصبح لهذه "الحنجرة الغامضة" حياتها الخاصة بها. ومازال وودوارد وبيرنشتين يرفضان بشدة الكشف عن الهوية الحقيقة للمصدر وقالا في تصريحات صحفية مؤخرا انهما لن يكشفا عن ذلك إلا بعد وفاة المصدر، أو قيامه بإعفائهما من التعهد بالتزام السرية.
ويحدد دين، الذي قضى أربعة أشهر في السجن بتهمة إعاقة سير العدالة، خمسة أشخاص يحتمل أن يكون أحدهم هو "الحنجرة الغامضة" وهم: بات بوكانان أحد المساعدين السابقين للرئيس نيكسون، ورون زيجلر السكرتير الصحفي السابق، وثلاثة آخرون من المساعدين بالبيت الابيض هم ستيف بول وريموند برايس و جيري وارين.
ومن بين الاسماء الاخرى التي تتردد هنا وهناك، هنري كيسنجر مستشار نيكسون للامن القومي ووزير الخارجية، والكسندر هيج الذي عمل رئيسا للاركان للبيت الابيض قبل فترة وجيزة من استقالة نيكسون ثم عمل بعد ذلك وزيرا للخارجية في إدارة الرئيس رونالد ريجان.
ويجمع بين هؤلاء أنهم عملوا جميعا في البيت الابيض. وقال دين خلال المقابلة "لقد وضعت صاحب الحنجرة الغامضة، وبصورة لا تقبل الجدل على ما أعتقد، في دائرة البيت الابيض خلال حكم الرئيس نيكسون، وتناولت الاشخاص القليليين جدا ممن كان بمقدورهم الاطلاع على المعلومات التي قدمها صاحب الحنجرة الغامضة للصحفي وودورد، في الوقت الذي قدمها".
ودافع دين عن أسلوب تسريب المعلومات للصحافة وحيا صاحب "الحنجرة الغامضة" على "شجاعته". وعلق دين على بنود قانون فدرالي صدر في عام 1958 يحدد قواعد السلوك التي يتعين على العاملين في الحكومة التقيد بها قائلا إنها في الواقع كانت بحاجة لحنجرة غامضة تدق ناقوس الخطر.
وقال دين أن "أي موظف فدرالي ينبغي أن يكون ولاءه ليس للرئيس ولا لحزب سياسي أو كيان حكومي كالبيت الابيض وإنما للشعب الذي يعمل لحسابه رجلا كان أو امرأة".
وقال أن "ميثاق الشرف يتطلب من كافة المسئولين والموظفين الابلاغ عن الفساد الحكومي أينما وحيثما وجد. والميثاق لم يحدد الكيفية التي يتم الابلاغ بها. لكن الحنجرة الغامضة أبلغت بطريقتها الخاصة".