ثلاثيات الفن التشكيلي

عاريات محمود سعيد رُسمن في غرف مغلقة، وليس على كورنيش بحري بالإسكندرية مثل "بنات بحري"، أو على رصيف نيل القاهرة.
تتسيانو وزع مضمون الحكمة بحيث تنطبق على الثالوث المزدوج من الرؤوس المصوَّرة
جورجوني اقتحم عالم التلميحات الشاعرية وأسرار النفس الكامنة
هدف ديلاكروا هو إبراز قضية الاستشراق من خلال النسوة الجزائريات
بنات محمود سعيد الثلاث كلهن مقبلات، وليس فيهن واحدة مدبرة

قد يتساءل المتابع لأعمال الفنان التشكيلي محمود سعيد، لماذا لم يرسم "بنات بحري" الثلاث في حالة عري، وهو الذي رسم كثيرا من لوحات التعري لموديلاته؟
وقد تكمن الإجابة في أن عاريات محمود سعيد قد رُسمن في غرف مغلقة، وليس على كورنيش بحري بالإسكندرية مثل "بنات بحري" 1935، أو على رصيف نيل القاهرة كما هو الحال في لوحة "المدينة" 1937. وبطبيعة الحال الموديلات التي كان يرسمهن سعيد عرايا تأبى الواحدة منهن التعري في الطريق العام أو على الكورنيش، فالموديل توافق على أن يرى الفنان عريها ويرسمه في حجرات مغلقة، أما أن يرسمها عارية في الطرق والأماكن المفتوحة مثل الحدائق والمتنزهات وشواطئ البحار، فأعتقد أنها سترفض ذلك، ولا ترحب به مهما كان إغراء المال المدفوع لها.
أيا كان الأمر، فإن فكرة رسم ربات الحسن الثلاث التي أراد بها محمود سعيد إظهار جمال بنت البلد في عمل يخلدها، ربما يكون الفنان قد استوحاها من التكوين الفني لـ "ربات الحسن الثلاث" العاريات، وقد بدون متشابكات إحداهن بالأخرى مثلما ظهرن في النحت اليوناني الروماني بمتحف اللوفر.
يقول د. ثروت عكاشة: "إن وضعة التشابك مقتبسة من صفوف الراقصات اللاتي يضعن أذرعتهن فوق أكتاف بعضهن البعض، بينما تبدو واحدة منهن مقبلة والأخرى مدبرة، وهي حركة لا تزال سارية في تصميمات الرقص اليونانية حتى الآن".

جمال بنت البلد
"بنات بحري" لمحمود سعيد

غير أن بنات محمود سعيد الثلاث كلهن مقبلات، وليس فيهن واحدة مدبرة.
أما "ربات الحسن الثلاث" الموجودات في متحف نابلي (تصوير جداري روماني) فيتوقع عكاشة أن يكون أحد الحرفيين الوافدين من الإسكندرية هو الذي صورها حيث تتبدّى في الربات الثلاث مظاهر التأثير الوافد من الشرق الذي لعب دورا فاعلا في تفسخ الفن الكلاسيكي.
وإذا صدق توقع عكاشة فإن جذور لوحة "بنات بحري" (أو ربات الحسن السكندريات الكاسيات) يعود إلى هذا الحرفي السكندري الذي ألهم مواطنه سعيد فكرة لوحته الشهيرة.
على أن فكرة رسم الثلاثي سواء كانوا من الحسناوات أو من الرجال انتشرت في الأوساط التشكيلية على نحو نراه في أعمال أخرى مثل "الحكماء الثلاثة" للفنان الإيطالي تتسيانو، والمرسومة عام 1565 وتفصح عن الحكمة القائلة: "يهتدي الحاضر بحكمة الماضي كي لا يضل في دروب المستقبل".
يقول الدكتور ثروت عكاشة: لقد وزع تتسيانو مضمون هذه الحكمة بحيث تنطبق على الثالوث المزدوج من الرؤوس المصوَّرة، فعبارة "رجل الماضي" المكتوبة والتي تعلو رأس الشيخ تبدو مجانبة ملتفتة نحو اليسار ومرتكزة على رأس ذئب، وعبارة "رجل الحاضر الحكيم السلوك" التي تعلو وجه الشاب الملتحي تبدو بالمواجهة ومرتكزة على رأس أسد، وعبارة "رجل المستقبل" التي تعلو وجه صبي تبدو بالمجانبة ملتفتة إلى اليمين، ومرتكزة فوق رأس كلب.
وتشكل عبارة "رجل الحاضر يهتدي بحكمة الماضي" مفتاح التكوين كله، إذ تُعلي الصورة من شأن الحكمة في مراحل الزمن الثلاثة، فالحاضر يستقي الحكمة من الماضي ويستلهمها السلوك في المستقبل.
ويؤكد عكاشة أن تتسيانو لم يخرج عن التقاليد السائدة في فن التصوير باستثناء أن سحر فرشاته قد أضفى واقعية ملموسة على الرأسين المواجهين في منتصف الصورة (رأس الشاب الملتحي والأسد) بينما ابتعد بالوجهين المجانبين عن الواقع المادي (الشيخ والذئب إلى اليسار، والصبي والكلب إلى اليمين).
وبهذا يكون تتسيانو قد بلغ الذروة في تعبيره التصويري عن التباين بين الحاضر القائم وبين ما كان وما سيكون تعبيرا تلمسه العين، ثم لا يلبث أن ينفذ إلى أعماق الحس.
وقد سبق أن التقط الفكرة نفسها الفنان الإيطالي جورجوني (1477 ـ 1510) الذي اقتحم عالم التلميحات الشاعرية وأسرار النفس الكامنة.
ويرى د. ثروت عكاشة أن جورجوني أراد في لوحته "الحكماء الثلاثة" تمثيل أساتذة الفلسفة  في العصور الثلاثة: القديمة والوسطى والحديثة. حيث يبدو أستاذ الفلسفة الوسطية (الذي يتوسط الرجال الثلاثة) معتمدا على ذراع صاحب الفلسفة القديمة المتدثر بتراث الماضي الثقيل محتضنا أسفار أساطيره العريقة، بينما يجلس ممثل الفلسفة الحديثة متخففا من العباءة ممسكا برموز الواقعية والمعرفة العلمية متأملا الطبيعة من حوله بنظرة فاحصة متأنية.

هكذا نظر ديلاكروا إلى نساء الشرق
"نساء جزائريات" من أشهر لوحات الاستشراق الفني

ملمح آخر يلمحه المتأمل في هذه اللوحة هو أن صاحب الفلسفة القديمة ذو لحية طويلة غير مهذبة تذكرنا بالفلاسفة القدماء، بينما صاحب الفلسفة الوسطى ذو لحية خفيفة ومهذبة، أما صاحب الفلسفة الحديثة فبلا لحية على الإطلاق، وبلا غطاء على الرأس كما هو حال صاحبيه. فهل قصد الفنان الإيطالي جورجوني شيئا ما أو معنى ما من وراء ذلك؟
وتختلف عن النمطين السابقين لوحة "القديس ايليجيوس شفيع الصاغة في حانوته مع الخطيبين" التي رسمها الفنان الفلمنكي بيتروس كريستوس بتكليف من نقابة الصاغة بمدينة انفرس، ونلاحظ في هذه اللوحة القديس وقد اتشح بزي الصاغة الشائع في وقتذاك جالسا إلى طاولة عرض بضاعته وهو يزن خاتمي زواج شاب وفتاة أنيقين اختلفا إلى حانوته ووقفا إلى جواره في وضعة ثلاثية الأرباع تترواح بين المجانبة والمواجهة.
يقول الدكتور ثروت عكاشة: تسترعينا العناية الشديدة التي رسم بها الفنان كل صغيرة وكبيرة في المشهد. فصوّر محتويات الحانوت متجاورة دون انتظام حيث نرى مختلف الطرائف مختلطة فوق الرفوف، كما تعكس المرآة المحدبة إلى جوار القديس صورة شخصين يعبران الطريق المقابل لدكانه، وكذا المباني المواجهة. 
ويؤكد أن هذه الصورة – التي كان أبطالها ثلاثة - مستوحاة من لوحة "أرنولفيني وعروسه" لفان إيك، لكنها لا تحمل مع براعة تنفيذها أي طابع ديني، فإن الروح الدينية التي أملت على المصوّر هذه اللوحة تختلف كل الاختلاف عن الروح الدينية التي أملت على فان إيك لوحاته، إذ يبدو أن كريستوس وهو يصور الرموز على غرار سلفه قد نسى أو تناسى ما ترمز إليه ولم يُعن بغير تسجيل مظهرها الواقعي.

وضعة التشابك
موجودات في متحف نابلي (تصوير جداري روماني) 

ولنا أن نتأمل أيضا لوحة "نساء جزائريات" للفنان الفرنسي ديلاكروا حيث نلاحظ ثلاثا من النسوة تخدمهن خادمة زنجية، ويركز الفنان اهتمامه على النسوة الثلاث، ولم يدع أنهن ربات حسن وجمال، ولكن هدف الفنان هنا هو إبراز قضية الاستشراق من خلال النسوة الجزائريات. 
وتعد هذه اللوحة التي استلهمها الفنان الفرنسي دولاكروا من وحي زيارة له للجزائر من أشهر أعماله الفنية، بل من أشهر لوحات الاستشراق الفني بصفة عامة، وقد اعتمد الفنان على رسومات أولية وتخطيطات أعاد صقلها عند عودته إلى باريس، وأضفي عليها الكثير من وحي حنينه إلى الجزائر، وأشواقه له.
وما يستوقفنا في اللوحة وضعية جلوس النساء الثلاث، التي نلاحظ أنها تتدرج من الاستلقاء المضطجع في أقصى يسار اللوحة، إلى التربع في وسط اللوحة، إلى الإقعاء في يمين اللوحة. بينما نلاحظ أن الشخص الوحيد الواقف فيها هو الخادمة الزنجية في أقصي اليمين والتي نخرجها من إطار الثلاثي بطلات اللوحة.
إن انطباع (الفراغ) هو ما يخرج به الناظر إلى هذه اللوحة، فنحن أمام نسوة لا عمل لهن سوى الاسترخاء بكسل والثرثرة والتدخين، حيث نلاحظ النرجيلة في يد المرأة الثالثة يمينا، كما نخرج بانطباع آخر هو أن نساء اللوحة الثلاثة ينتمين إلى الطبقة الارستقراطية، ولذا من الطبيعي جدا أن يجدن الفراغ الكافي للاسترخاء والتدخين. أو هكذا نظر ديلاكروا إلى نساء الشرق الثلاث.