ثمن الحرية الزائفة

"ثمن الحرية" عنوان مغر لفيلم. لكنه على الأرض يعني فقدان للأمن والقيم ومقدمة للخراب.

منذ اسطورة محمد البوعزيزي التي انبعثت مثل طائر الفينيق من رماد جثة الشاب لتونسي الذي قام بإضرام النار في جسده عام 2011 احتجاجا على ضيق سبل العيش والعالم العربي يهذي بكلام، لم يقله من قبل.

ما سمي بالربيع العربي هو عبارة عن كيس، كانت محتوياته تتكون من تصرفات لم يعتدها الإنسان العربي ومن جمل لم يسبق له أن صرح بها علنا. وهو ما يشير إلى أن ذلك الكائن البشري فاجأ نفسه بشيء من إنسانيته حين صار يهذي جسديا ولسانيا كما لو أن رقابة عصور قد فقدت السيطرة عليه فصار حرا في الوقت الذي لم يكن فيه مستعدا لذلك الفصل الذي قد يكلفه الكثير من المعاناة.

سيكون فصلا من الجحيم كما صرنا نعرف.

أتذكر أن مراسل إحدى القنوات التلفزيونية الأميركية علق على عمليات نهب الممتلكات العامة التي شهدتها شوارع بغداد حين أعلنت الولايات المتحدة عن سقوط النظام العرافي واحتلال العراق "إنهم أحرار لأول مرة في حياتهم. وهم لا يعرفون ماذا يفعلون بحريتهم. إنه ثمن الحرية".

"ثمن الحرية" عنوان مغر لفيلم سينمائي، مسلسل تلفزيوني أو رواية ولكن حين يتعلق الامر بمصائر الشعوب فإن العدالة ينبغي أن تفتح عينيها جيدا.

فإين هي الحرية مقابل الكلفة العالية لثمنها الذي دُفع سلفا؟

كل هذا الخراب، خرب المدن والخلاق. كل هذا الدم المراق في حروب ذهب معظمها إلى النسيان قبل أن يجف ذلك الدم. كل هذه الفوضى. كل هذا التشرد والنزوح والتهجير الذي صنع موجات بشرية مروعة من اللاجئين الذين غادروا من غير أمل في العودة. كل هذا الانهيار في القيم الذي أنتج دولا فاشلة وحكومات فاسدة وشعوبا رضيت بالفساد حلا لتصريف شؤونها. الشرور بكل أصنافها وقعت وصارت تحظى برعاية استثنائية حين تكيف المجتمع معها وصار يتفادى ازعاجها إذا لم نقل إنه وضع نفسه في خدمتها. فهل بقي هناك مجال لنبوءة الحرية التي يبشر بها ثمنها؟

عبارة مضللة صار بعض المثقفين يتداولها وهم يفكرون في الثورة الفرنسية. ولطالما صدع أولئك المثقفون رؤوسنا بالحديث عما قدمته الشعوب المتقدمة من تضحيات لكل تصل إلى المكان الراقي الذي وصلت إليه.

وكما أرى أن ذلك الهذيان قد ضلل الشعوب حين أوهمها بأنها كانت تقف وراء سقوط الأنظمة الرثة من غير أن يتم التطرق إلى موقف الجيش والأجهزة الأمنية الذي كان حاسما في عملية السقوط تلك.

وهو ما دفع الشعوب إلى تصديق الكذبة التي تنطوي عليها حكاية ثوراته المزعومة التي لم تنتج طبقة سياسية جديدة، تكون في مستوى آمال وتطلعات تلك الشعوب وبالأخص في ما يتعلق بإنهاء الفقر الذي أصبح أشبه بالفضيحة التي لا تجد الحكومات الناشئة ضرورة لمواجهتها.

لقد تم تدجين "ابو القاسم الشابي" حين وُضعت صرخته المتفائلة "إذا الشعب يوما أراد الحياة" في علب تم توزيعها على الناس ليتناولوا محتوياتها قبل النوم فيروا القدر وقد استجاب لهم في الأحلام.

شيء من هذا القبيل يشبه إلى حد بعيد ما تحدث عنه الصحفي الأميركي حين أعتبر عمليات النهب ثمنا للحرية.

ما حدث في الواقع أن الشعوب حين وصلت إلى اليأس المطلق من إمكانية الإصلاح وكانت تتلفت حائرة بحثا عمَن ينقذها تم استدراجها إلى الفوضى وفي الوقت نفسه كانت انقلابات القصور تجري بسلاسة. وهو ما يعني أن تلك الانقلابات ما كانت لتقع لولا قيام تلك الفوضى.

وإذا ما كان الشعوب قد اقتنعت مزهوة في بدايات التغيير أن حراكها كان حاسما في الاحداث وهو ما يشكل نصف الحقيقة فإنها اليوم تستعيد ذلك الحراك على شكل هذيانات، تكتشف من خلالها أن دورها في التغيير هو أشبه بالحجاب الذي يتستر على الحقيقة.