ثمن الحقد على الاردن

اخطأ العرب في 1974. سهلوا عملية ضم إسرائيل لقسم من الضفة الغربية.

يندرج اعلان وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو عن ان بلده يعتبر المستوطنات الإسرائيلية في الضفّة الغربية "غير مخالفة للقانون" في سياق سياسة محددة لواشنطن بدأت تتبلور مع وصول دونالد ترامب الى البيت الأبيض. توجت هذه السياسة باعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل في كانون الاوّل – ديسمبر 2017 ونقل السفارة الاميركية اليها من تل ابيب لاحقا.

تصب هذه السياسةّ في الخروج من دور الوسيط في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لم تعد الإدارة الاميركية الحالية تؤمن بوجود عملية سلام في منطقة دخلت منعطفا جديدا في ضوء تراجع القضيّة الفلسطينية بشكل مستمرّ، خصوصا منذ العام 2003، وهو العام الذي حصل فيه الزلزال العراقي الذي ما زالت تردداته تفعل فعلها في المنطقة كلّها.

هناك عوامل عدّة أدت الى وصول القضية الفلسطينية الى ما وصلت اليه. لا شكّ ان حال اللاتوازن التي تسود في المنطقة جراء تسليم إدارة جورج بوش الابن العراق الى ايران لعبت دورا مهمّا في جعل القضية الفلسطينية اقرب الى قضيّة منسيّة. كانت هذه القضيّة في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته شاغلة الناس ومالئة الدنيا، كانت القضيّة الاولى ليس في الشرق الوسط فحسب، بل في كلّ انحاء العالم أيضا.

لعب ياسر عرفات دورا كبيرا في تحويل فلسطين الى قضيّة كبيرة بفضل دبلوماسية نشطة استطاع من خلالها تجاوز أخطاء كثيرة، بحجم الجرائم، ارتكبها خصوصا في الأردن ولبنان وتجاه الكويت لدى وقوعها تحت الاحتلال العراقي في صيف العام 1990. كانت القضيّة الفلسطينية كبيرة الى درجة سمحت لـ"أبو عمّار" بجعل العالم، بما في ذلك اميركا، يغض النظر عن كلّ اخطائه، بما في ذلك رهانه على ان صدّام حسين سينجو من نتائج مغامرته المجنونة في الكويت.

لا يمكن القول ان الفلسطينيين يدفعون فقط ثمن غياب شخص ياسر عرفات في مثل هذا الشهر من العام 2004 والفراغ الكبير الذي خلفه. كذلك، لا يمكن القول ايضا انّهم يدفعون ثمن التحولات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي نفسه الذي صار اسير اليمين المتطرف ولم يعد مهتمّا باي سلام من ايّ نوع مع الفلسطينيين بعد العمليات الانتحارية التي نفّذتها "حماس" بتشجيع ودعم خارجيين. استهدفت العمليات الانتحارية مدنيين في الداخل الإسرائيلي، خصوصا في مرحلة ما بعد توقيع اتفاق أوسلو في خريف العام 1993.

إضافة الى ذلك كلّه، لا يمكن بالطبع وضع كلّ اللوم على القيادة الفلسطينية الحالية التي لا حول لها ولا قوّة، خصوصا بعد استبعاد أي شخصية فلسطينية يمكن ان يكون لها وزن في الداخل الفلسطيني او المنطقة او العالم عن القرار السياسي. هناك ظروف تعيش في ظلها هذه القيادة، ظروف مرتبطة الى حد كبير بحال الانقسام الفلسطينية التي يبقى وضع غزّة ابرز دليل عليها من جهة وطبيعة شخصية محمود عبّاس (أبو مازن) الذي لا يتحمّل وجود أي قيادي له وزنه ودوره الى جانبه من جهة أخرى.

في الواقع، يدفع الفلسطينيون حاليا ثمن العجز عن الاستفادة من الفرص التي اتيحت لهم منذ قرار التقسيم في العام 1947، بل يدفعون ايضا عمليا ثمن غياب النضج العربي الذي تجلّى في القمة العربية التي انعقدت في الرباط في العام 1974 والتي توصلت الى قرار يعتبر منظمة التحرير الفلسطينية "الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني". سحبت القمّة، بدفع من الرئيس الجزائري، وقتذاك، هواري بومدين من المملكة الأردنية الهاشمية حقّ التفاوض من اجل استرداد الضفّة الغربية والقدس الشرقية، علما انّهما كانتا تحت السيادة الأردنية عندما احتلتهما إسرائيل في حزيران – يونيو 1967.

هناك عرب كثيرون أرادوا في تلك الايّام الانتقام من الأردن بسبب دفاعه عن نفسه وطرده المسلحين الفلسطينيين من أراضيه في العام 1970 في ما سمّي عن غير وجه حقّ "أيلول الاسود". لم يحافظ الملك حسين وقتذاك على الأردن فحسب، بل حمى القضية الفلسطينية عندما حال دون تحويل المملكة الى "وطن بديل" للفلسطينيين، كما كان يشاء متطرفون إسرائيليون او قادة فلسطينيون كانوا يتزعمون منظمات صغيرة تدّعي انّها يسارية!

كانت النتيجة ان قرار اعتبار "منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني" شكّل هديّة من السماء الى إسرائيل التي بدأ كبار المسؤولين فيها يتحدّثون عن الضفّة الغربية كأرض "متنازع عليها" وليست ارضا محتلّة كانت تحت السيادة الاردنية. هناك حاليا 700 الف إسرائيلي يعيشون في مستوطنات الضفّة الغربية.

مع الزحف الاستيطاني الإسرائيلي، تغيّرت المعطيات على الأرض. لم يتفهّم العرب عموما والفلسطينيون خصوصا اهمّية عامل الوقت ولا اهمّية الاستفادة من دروس الماضي القريب. ففي العام 1974، لم تكن مرّت سوى سبع سنوات على حرب الايّام الستة التي احتلت فيه إسرائيل الضفّة الغربية والجولان وسيناء. غلبت فكرة الانتقام من الأردن على كلّ ما عداها. تبدو مفهومة الرغبة الفلسطينية من الانتقام بسبب "أيلول الأسود". اعمى الحقد وقتذاك القادة الفلسطينيين، بما في ذلك قادة "فتح" الذين لم يفهموا لماذا دافع الأردن عن نفسه كدولة ذات سيادة على ارضها ترفض قيام دولة أخرى ترفع شعار "طريق القدس يمرّ في عمّان"...

ما لا يبدو مفهوما هو غياب الوعي العربي لما يعني سحب ورقة استعادة الضفة الغربية والقدس الشرقية من الأردن وتسليمها الى منظمة التحرير الفلسطينية التي لم تكن تمارس أي دور في الضفة الغربية لدى وقوع الاحتلال. لم يكن مفهوما ان استعادة الأرض كان يجب ان يكون الاولويّة... بدل البحث عن طريقة للانتقام من الأردن والملك حسين.

كان قرار اعتبار منظمة التحرير "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" خطأ تاريخيا آخر ارتكبته المجموعة العربية. تدفع القضية الفلسطينية اليوم ثمن هذا الخطأ في ظلّ إدارة أميركية مأخوذة بهمومها الداخلية وبما يوفر شعبية لدونالد ترامب في أوساط اليمين الاميركي، خصوصا لدى مسيحيين متطرّفين قريبين من الصهيونية.

في المدى الطويل، سيظهر انّ هناك قصورا أميركيا في فهم ان القضية الفلسطينية قضيّة شعب يمتلك هوية خاصة به وان كلّ ما تفعله حاليا هو دفع الفلسطينيين في الضفّة الى المطالبة بان يكونوا مواطنين في دولة واحدة مع الاسرائيليين. هل تدفع إدارة ترامب عمليا في اتجاه تحويل إسرائيل الى دولة عنصرية كما كانت عليه جنوب افريقيا في الماضي القريب؟

اخطأ العرب في 1974. سهلوا عملية ضم إسرائيل لقسم من الضفة الغربية. لكن للولايات المتحدة مسؤولية أخلاقية لم يكن مفترضا ان تتخلى عنها مسايرة لليمين الإسرائيلي بأفقه السياسي المحدود... واليمين الاميركي الذي لا يعرف شيئا عن الشرق الاوسط وطبيعة الصراعات فيه.