ثورة غيّرت المنطقة... نحو الاسوأ

ما لم يتغيّر طوال أربعين عاما هو غياب الجدّية الاميركية في مواجهة ايران. ما لم يتغيّر ايضا هو استمرار العدائية الايرانية التي أسس لها نظام الشاه.

هناك مجموعة احداث، يمكن وصفها بالتاريخية، طبعت القرن العشرين بدءا بالثورة البولشيفية التي مهدّت في العام 1917 لقيام الاتحاد السوفياتي وتحوّله شيئا فشيئا الى قوة عظمى عاشت خمسة وسعين عاما.

امتلك الاتحاد االسوفياتي كلّ مستلزمات القوّة العظمى باستثناء الاقتصاد القويّ. بلغ به الامر امتلاك ايديولوجية متماسكة ودول "مستقلّة" تدور في فلكه في انحاء مختلفة من العالم صولا الى شواطئ بعيدة مثل اثيوبيا او اليمن الجنوبي. كان لديه حلف وارسو في مواجهة الحلف الأطلسي. كان لديه نصف صواريخ العالم ودبّاباته وترسانة نوويّة لا تزال موجودة الى اليوم، وانّ في حوزة روسيا الاتحادية. غيّر قيام الاتحاد السوفياتي العالم. زاد الاتحاد السوفياتي من نفوذه وتمدده بعد الحرب العالمية الثانية واتفاق يالطا الذي قسّم قارات ودولا. جعل اتفاق يالطا الاتحاد السوفياتي يهيمن على نصف أوروبا، بما في ذلك على قسم من المانيا، أي ما كان يعرف بألمانيا الشرقية.

لم يشفع كلّ ذلك بالاتحاد السوفياتي الذي ما لبث ان انهار لتقوم مكانه دولة روسيا الاتحادية التي لا تزال دولة قويّة، لكنها ليست في مستوى ما كان عليه الاتحاد السوفياتي. لا تزال روسيا تبحث الى اليوم عن طريقة تثبت من خلالها انّها ما زالت تمتلك نفوذا خارج حدودها. تعلّمت من تجربة الاتحاد السوفياتي ولم تتعلّم منها في الوقت ذاته.

لا تقلّ الثورة الايرانية التي انتصرت في مثل هذه الايّام من العام 1979 اهمّية عن الثورة البولشيفية. غيرت الثورة الايرانية، وكانت ثورة شعبية حقيقية، طبيعة الشرق الاوسط والخليج وحتّى مناطق أخرى في العالم وصولا الى اليمن من جانب وأفغانستان من جانب آخر. حققت اختراقات في عمق المنطقة مستخدمة سلاحين في غاية الاهمّية والخطورة هما الغرائز المذهبية وخطف القضيّة الفلسطينية من العرب. قبل نجاح الثورة الايرانية والاعلان عن قيام "الجمهورية الإسلامية"، لم يكن هناك صراع مكشوف ذو طابع سنّي – شيعي. وقبل الثورة الايرانية، لم يكن هناك من لا مهمّة له سوى المزايدة على العرب فلسطينيا. قبل الثورة الايرانية، كان لبنان شيئا آخر، كذلك سوريا والعراق. استطاعت الثورة الايرانية خلق صراع سنّي – شيعي في المنطقة واستطاعت في الوقت ذاته سرقة القضيّة الفلسطينية من العرب. لم يكتف الخميني بإعلان آخر يوم جمعة من شهر رمضان "يوم القدس" فحسب، بل نجحت ايران أيضا في تعطيل أي فرص لتسوية معقولة يمكن التوصّل اليها مع إسرائيل. قطعت "الجمهورية الإسلامية" على الفلسطينيين ايّ فرص امام تسوية عبر نجاحها في جعل "حماس" تنفّذ عمليات انتحارية لم تخدم سوى اليمين الإسرائيلي الرافض أصلا لاي تسوية من ايّ نوع مع الفلسطينيين، خصوصا خيار الدولتين. لعبت ايران دورا في غاية الاهمّية، عبر "حماس" وغيرها، في تغيير طبيعة المجتمع الإسرائيلي وجعله اكثر يمنية وتطرّفا.

ما يعيشه الفلسطينيون اليوم من مآس هو نتيجة لنجاح ايران في احباط ايّ امل بتسوية في مرحلة كان يمكن فيها تحقيق بعض التقدم على طريق قيام الدولة الفلسطينية المستقلة التي صارت حلما.

في اربعين عاما، استطاعت ايران التحوّل الى لاعب إقليمي أساسي، ان لم يكن الأساسي في المنطقة، في ظلّ تراجع الدور المصري. يتحمّل العرب عموما مسؤولية جزء كبير من تراجع مصر بعدما اصرّوا على عزلها اثر زيارة أنور السادات القدس المحتلة في تشرين الثاني – نوفمبر 1977 ثم توقيع اتفاقي كامب ديفيد في أيلول – سبتمبر 1978 وصولا الى توقيع معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية في آذار – مارس 1979. كانت ايران التي وجدت لدى قيام "الجمهورية الإسلامية" مصر خارج جامعة الدول العربية المستفيد الاوّل من الوضع العربي الجديد الذي دفع في اتجاهه البعثان السوري والعراقي. فجأة وضع البعثان كلّ خلافاتهما جانبا وقررا التصدّي لانور السادات غير مدركين للنتائج التي ستترتب على ذلك لاحقا. هيّأ صدّام حسين، حتّى في ظل رئاسة احمد حسن البكر، الأجواء لتسلل ايران الى النسيج العربي والى الداخل العراقي. دفع الثمن غاليا في 1980 عندما وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع ايران التي خاضت حربا مع العراق استمرّت ثماني سنوات كانت فيها مدعومة من حافظ الأسد ومعمّر القذّافي.

لكنّ الخيبة الأكبر كانت تلك التي اصابت ياسر عرفات الذي اكتشف بعد زيارته الاولى لطهران ولقائه مع الخميني ان المطلوب منه ان يكون في جيب "الجمهورية الإسلامية" وان ينسى الدور الذي لعبه في دعم كلّ من أراد التخلّص من الشاه. شمل دعمه تدريبات عسكرية في الأراضي اللبنانية لمجموعات إيرانية من مشارب مختلفة كان يجمع بينها العداء لنظام الشاه.

من الاستفادة الى ابعد حدود من الغياب المصري الذي فرضه على العرب الآخرين، بالقوة والإرهاب، البعثان العراقي والسوري، الى الانتشار في لبنان وتهديد العراق ودول الخليج العربي، وصولا الى الوضع في سوريا واليمن، لا يزال هناك سؤال غامض يطرح نفسه بإلحاح. ما سرّ العلاقة الاميركية – الايرانية منذ العام 1979؟ ما سرّ الاجتياح الاميركي للعراق في 2003 في وقت كان الطفل يدرك ان الرابح الاوّل من ايّ حرب تؤدي الى تغيير للنظام العراقي من دون تحضير جيد لمرحلة ما بعد صدّام، سيكون ايران ولا احد آخر غير ايران.

كان يمكن لإيران في عهد الخميني ثم عهد خامنئي ان تكون نسخة مختلفة عن ايران الشاه. كان في استطاعتها تجنيب المنطقة الكثير من الويلات بدل الدخول في مزايدات مع هذه الدولة العربية او تلك تحت عنوان من هو مسلم اكثر من الاخر؟ في عهد "الجمهورية الاسلامية"، زاد الشيعة تطرّفا وجرّوا معهم السنّة الى سلوك هذا الطريق. لم تكن العلاقة العميقة بين الاخوان المسلمين وايران غائبة عن المشهد الإقليمي في ايّ وقت. يظلّ الشاهد على ذلك الشارع الذي يحمل اسم خالد الاسلامبولي، قاتل أنور السادات في ايران.

ما لم يتغيّر طوال أربعين عاما هو غياب الجدّية الاميركية في مواجهة ايران. ما لم يتغيّر ايضا هو استمرار العدائية الايرانية التي أسس لها نظام الشاه. الجزر الاماراتية الثلاث (أبو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى) ما زالت محتلة منذ العام 1971. انتصرت ايران في غير دولة عربية، في العراق وسوريا ولبنان واليمن وكادت ان تنتصر في البحرين. انتصرت عمليا على شعوب عربية رافعة شعار "الموت لاميركا والموت لإسرائيل". لم تمت اميركا ولم تمت إسرائيل.

بعد أربعين عاما على عودة الخميني الى طهران، تغيّرت المنطقة كلّها، ولكن نحو الاسوأ. ما لم يتغيّر هو تلك النظرة الفوقية الايرانية الى العرب الذين قبل بعضهم ان يكون ميليشيا مذهبية تعمل في خدمة مشروع توسّعي لا افق له. تماما كما كانت حال المشروع السوفياتي. فما يجمع بين الثورة الايرانية والثورة البولشيفية هو مشروع قائم على التمدد خارج الحدود من دون قاعدة اقتصادية تتمتع بحدّ ادنى من مقومات الحياة. كانت ايران الشاه تعتمد على النفط والغاز... صارت ايران الخميني اكثر اعتمادا عليهما. تستطيع ايران ان تخرّب في الداخل والمنطقة، لكنها لا تستطيع البناء او تقديم أي نموذج مرتبط بثقافة الحياة من قريب او بعيد.