ثورة لبنان.. وسلاح حزب الله

في إيران وغزة ولبنان تنفصل الكرامة الوطنية عن العيش الكريم أي أن السياسة تنفصل عن الاقتصاد السياسة هي صواريخ ومكافحة إمبريالية والاقتصاد موضوع إداري للاختصاصيين وحدهم.

بقلم: حسين عبد الحسين

توقعت المؤسسات الدولية أن يضمر الاقتصاد الإيراني العام المقبل بأكبر نسبة منذ العام 1984. كيف تعاطت طهران مع مشكلة اقتصادها المتهاوي؟ أعلنت تركيب طرود مركزية جديدة لرفع نسبة تخصيب اليورانيوم في مخزونها. كما في إيران، كذلك في غزة، الاقتصاد في ورطة. المؤسسات الدولية تشير إلى أن نصف الغزاويين يعيشون تحت خط الفقر. كيف تعالج "حماس" أزمتها؟ أعلن رئيسها يحيى السنوار أن "المقاومة" جاهزة لأي حرب مع إسرائيل لأن الفلسطينيين لن يركعوا. غريبة هي الحلول الاقتصادية لدى حكام إيران وغزة.

للتخفيف من مأساة غزة، تسعى السلطة الفلسطينية لمواصلة إنفاقها على القطاع. لكن السلطة خسرت وارداتها بسبب رفض إسرائيل تسليمها العائدات الضريبية لخلافات سياسية، فراحت السلطة تستدين من المصارف المحلية بفوائد مرتفعة، وهو ما أدى لانكماش اقتصادي، ونقص في العملة الأجنبية، وتضخم، ونفاد البضائع المستوردة، في مشهد مشابه لما يحصل في لبنان "المقاوم"، الذي حاول تأمين النقد الأجنبي في بلد اقتصاده انهار بالتزامن مع بطولاته القتالية و"انتصاراته الإلهية".

في إيران وغزة ولبنان تنفصل الكرامة الوطنية عن العيش الكريم، أي أن السياسة تنفصل عن الاقتصاد. السياسة هي صواريخ ومكافحة إمبريالية، والاقتصاد موضوع إداري للاختصاصيين وحدهم. هنا لب المشكلة التي تدفع حاليا إلى انهيار العقد الاجتماعي في الدول المنخرطة في "محور الممانعة"، فالاقتصاد هو الأساس، وهو محرك التاريخ، وهو الذي يملي السياسات على الشعوب، وهو الذي يدفع الشعوب إلى التعاون والعيش في السلام، أو إلى التنافس والحرب.

المشكلة في حروب إيران وتوابعها، أي غزة ولبنان، هي النظر إلى الحروب بشكل منفصل عن الاقتصاد، وخلط المقدّس بالتاريخ، فتصبح حروبا عاطفية على تراب لا قيمة اقتصادية له.

انهيار الاقتصاد دفع اللبنانيين إلى الثورة على دولتهم. لكن المشكلة تكمن في أن اللبنانيين لا يعرفون ما المطلوب لوقف التدهور، أو أن من يعرفون يخافون قمع "حزب الله" لهم، فيحجمون عن الإدلاء برأيهم. أما "حزب الله"، فيسعى ومناصروه إلى تشتيت أنظار ثوار لبنان بعيدا عن مشكلة حروبه المتواصلة، ويحاولون حصر الانهيار الاقتصادي بشؤون إدارية ومصرفية هي، على أهمية إصلاحها، غير قادرة وحدها على وقف الانهيار اللبناني.

مشكلة لبنان الاقتصادية هي فقدان ثقة المستثمرين والسيّاح. أساس هذه الثقة كان مبنيا على سياسة تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وهي سياسة مكلفة، خصوصا بسبب ارتفاع تكلفة الدين بسبب الأعمال الحربية المتواصلة لـ "حزب الله". وتثبيت النقد ضروري لكسب ثقة المستثمرين الخارجيين، من ناحية، ولتثبيت الاستقرار الاجتماعي في لبنان، من ناحية ثانية، إذ أن انفلات النقد يضرب ذوي المداخيل المحدودة ومن يتقاضون رواتبهم بالليرة أكثر من غيرهم.

لكن تثبيت سعر النقد وحده، من دون نمو الاقتصاد، يتحول إلى كابوس، إذ بغياب تدفق النقد الأجنبي من الخارج، يضطر المصرف المركزي للاستدانة بفوائد مرتفعة، وهو ما يجفف السوق من العملة الأجنبية ويؤدي إلى ركود.

ثم أن لبنان بحاجة لنقد أجنبي لاستيراد المواد الأساسية، كالطاقة والقمح، فضلا عن المواد الاستهلاكية. وبسبب إحجام المستثمرين والسيّاح عن الإنفاق في لبنان، وقعت البلاد في عجز تجاري، أي صارت تنفق نقدها الأجنبي بدون تعويضه.

ومع كل انخفاض في مخزون النقد الأجنبي، عمد المصرف المركزي إلى رفع الفائدة أكثر فأكثر، فاستمر الركود، وارتفع التضخم. أما المصارف المحلية والمكتتبين بالدين والمودعين، فهؤلاء يحصدون عائدات مرتفعة من الفوائد، لكنها عائدات في غالبها إسمية، إذ هي حبر على ورق بدون احتياطات فعلية لدى المصرف المركزي لتموين السحوبات المستقبلية.

حتى يخرج لبنان من كابوسه الاقتصادي ويوقف انهيار سعر صرف الليرة، عليه أن يسعى لاستعادة نمو الناتج المحلي، وهذا بدوره يحتاج إلى رساميل أجنبية، وهذه لا تعود إلى لبنان ما لم يعلن "حزب الله" وقف أعماله الحربية تماما، أو بكلام آخر، يعلن لبنان حياده تجاه كل مشاكل الشرق الأوسط، ويعلن أن لا قوة مسلحة في البلاد تعلو على المحاسبة القضائية. هذه بعض الخطوات المطلوبة حتى يتحول لبنان إلى حكومة قادرة على كسب ثقة المستثمرين وتحقيق نمو اقتصادي.

قد يكون المفيد مقارنة لبنان، الذي يحتل مرتبة 138 في لائحة الفساد، بجمهورية دومينيكان، التي تحتل مرتبة 129. الفساد في الدولتين متشابه، وكذلك غياب الموارد الأولية، كالطاقة، التي تعيش بعض الدول من عائداتها. لكن نمو اقتصاد دومينيكان تعدى الخمسة في المئة على مدى السنوات الخمسة الماضية، غالبا من عائدات السياحة وقطاع الخدمات. أما لبنان، فلا سياحة ولا خدمات ولا اقتصاد. والسؤال هو: لماذا لا يؤثر الفساد على دومينيكان مثل تأثيره في لبنان؟ الإجابة هي أن الفساد مكلف للاقتصاد، لكنه ليس عاملا حاسما لوقف النمو. دومينيكان تعيش في فساد، ولكن بلا حروب، وفيها استقرار، إذا فيها نمو. أما لبنان، فحروب متتالية، مع إمكانية اندلاع حرب في أية لحظة، إذا لا نمو، مع فساد أو بدونه.

فلندع ثوار لبنان، وبعض اقتصادييه، يتأملون هذه المقارنة الاقتصادية، ربما يدركون أنه طالما بقيت "ثورة لبنان" بعيدة عن سلاح "حزب الله" وحروبه، فهي ستبقى ثورة بلا أمل، وهو ما يعرفه زعيم "حزب الله" حسن نصرالله، الذي دعا منذ أيام الثورة الأولى إلى حصر اهتمامها بالمصارف، وخصوصا حاكم المصرف المركزي الذي يزعج الحزب بسبب انخراطه في منظومة الرقابة الأميركية ضد عمليات إيران لتبييض الأموال. كما حذّر نصرالله من أن تستهدف الثورة "المقاومة"، لأنه "تسييس" يستدرج عنفا، أو ما يسميه نصرالله "حربا أهلية". ربما بسبب خطوط نصرالله الحمراء، توقف الثوار عن صراخ "كلهم يعني كلهم ونصرالله واحد منهم"، وتفادوا الحديث عن أساس المشكلة، أي سلاح الحزب وحروبه، وحصروا مشكلتهم بالفساد الإداري وجشع المصارف.

لي أصدقاء في بيروت يرددون أنه أثناء "انتفاضة الاستقلال" في العام 2005، كان أكبر خطأ ارتكبوه هو قيامهم بنصف ثورة، والاكتفاء بانسحاب قوات الأسد من لبنان مع الاعتقاد بأنه يمكن التعايش مع سلاح "حزب الله". يقول هؤلاء إن الثورات إما كاملة، أو تأكل أبناءها قبل غيرهم.

نُشر في شبكة الشرق الأوسط للإرسال