جامعات العراق.. وعدوى حوزاته الدينية

الحوزات الدينية بقيت على مناهجها القديمة دون تطوير مهم بل كثرت الحوزات وأنشئت حوزات جديدة في أغلب المحافظات العراقية وازداد عدد المعممين الذين لم يحرزوا مرتبة الاجتهاد والفقاهة، لأن الدولة العراقية لم تكلف نفسها الإشراف على تلك المناهج.

بقلم: ناصر الحجاج

لستُ أول القائلين بأن المواد والكتب التي تُدرّس في المدارس الدينية الشيعيّة التقليدية مواد عفا عليها الزمن مثل "متن الأجرومية، وقطر الندى وبل الصدى، والنحو الواضح، وشرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك..."، وأمثالها من كتب النحو والصرف والبلاغة، وكتب "الفقه والمنطق والأصول...". بما يعني أن العلوم الإنسانية الحديثة والمعاصرة التي تستعين بها الجامعات العالمية في علم اللسان العام، بما فيها دراسة اللسان كظاهرة اجتماعية نفسية، لا يتم تدريسها في الحوزات العلمية مع بعض الاستثناءات البسيطة في تدريس أصول البحث العلمي وعلم الأديان المقارن.

وعلى الرغم من أن دعوات التجديد في مناهج الحوزات الدينية ما تزال متواصلة منذ مطلع القرن العشرين على أيدي جماعة "منتدى النشر" وحتى قيام الثورة الإسلامية في إيران، وبخاصة دعوات الاهتمام بعلم الأخلاق، إلا أن أيّاً من تلك الدعوات لم يتحقق بالرغم من صدورها عن أئمة فقهاء ومراجع دين مجتهدين، وبقيت الحوزات الدينية على مناهجها القديمة دون تطوير مهم، بل كثرت الحوزات في النجف وكربلاء والكاظمية وأنشئت حوزات جديدة في أغلب المحافظات العراقية في الجنوب والفرات الأوسط، وازداد عدد المعممين الذين لم يحرزوا مرتبة الاجتهاد والفقاهة، لأن الدولة العراقية لم تكلف نفسها الإشراف على تلك المناهج، ولا على التقاليد المجاملاتية والمتهاونة في وضع العمة على صغار "المشايخ" قبل تفقههم في الدين، وتخرجهم من مرحلة البحث الخارج التي قد تعادل مرتبة الإجازة التعليمية (البكالوريوس).

تحتاج الدولة العراقية إلى جهود كبيرة وخطة طويلة الأمد لتتمكن من التعاون مع زعامات الحوزات الدينية الشيعيّة لوضح حد لظاهرة "تعميم" رجال الدين قبل مرحلة الاجتهاد، إلا أن مسؤوليّة الدولة العراقية الأَولى بالتصدي لها هي الظاهرة المشابهة التي انعكست من الحوزات الدينية على الجامعات الأكاديمية، فالمناهج التي يتم تدريسها في الغالبية العظمى من الكليات والتخصصات ما هي إلا "ملازم وكورسات" لا ترقى إلى رتبة المادة المنهجية العلمية التدريسية التي يحتاجها التخصص، من جهة، ولا تأخذ بالحسبان سوق العمل وحاجة الأمة من جهة ثانية.

الكارثة الكبرى التي تواطأت الجامعات العراقية على السكوت عنها، والقبول بها هي قبول موضوعات رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه دون الأخذ بعين الاعتبار جدواها العمليّة، أو حاجة سوق العمل العراقية والدولية إليها، بل ودون النظر إلى حاجة الدولة والمجتمع لنتائجها العملية، وفي الوقت عينه عزوف الدراسات العليا عن تناول الموضوعات الضرورية والحساسة التي لها مساس مباشر بثقافة المجتمع العراقي، وباقتصاده، وأمنه ورقيه وسمعته.

إن من العيب والجهل، إن لم نقل من الإجرام، إغفال كليات الفقه والشريعة لدراسة ظاهرة التكفير التي تسببت بذبح الجيش والشرطة العراقية منذ 2003، وإغفال كليات العلوم الاجتماعية لدراسة المناطق والمجتمعات التي قبلت بوجود مجاميع إرهابية طائفية، ودراسة البيئة الاجتماعية التي تقبل بقتل العراقي المخالف لها عقائدياً، مثلما من الجهل والخيانة الأكاديمية تجنب كليات العلوم النفسية دراسة الظواهر النفسية، والنفسية الاجتماعية التي تدفع العراقيين إلى الالتحاق بجيوش الإرهابيين والقتلة ممن يستهدفون أبناء العراق أنفسهم.

إن مهمّة إصلاح مناهج الكليات العراقية وتخصصاتها، ومهمةَ تطوير أساليب التدريس وطرائقه مهمةٌ ثقيلة، لكنها ممكنة وضرورية، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار استعداد الجامعات الشقيقة والصديقة لتبني مشروع الاستاذ الزائر Visiting professor لأجل تبادل الخبرات الأكاديمية والبحثية لجامعات العراق الرسمية والخاصة، وعندها سنعرف بالتحديد حاجة المجتمع العراقي إلى تحديث الكثير من أفكاره، بما فيها المتعلق ببناء الدولة من خلال بناء الأمة، عبر الأكاديميا والبحث العلمي.

نُشر في المدى البغدادية