جداريات العلوم في الوطن العربي

لم يحدث أن انكشف "العلماء العرب" أمام قضية مثل انكشافهم أمام فيروس كورونا. هم خارج العصر وخارج العلم وخارج المنطق.
مشهدنا العلمي الراهن الأشد بؤسا وحزنا وقهرا أننا مجرد موظفي دراسات
كان على علماء العرب أن يفقهوا مقولة طه حسين: حتى استعارة العلم نحن لا نحسنها
أساتذة العلوم والصيدلة يتقمصون أدوار ابن خلدون والجبرتي والرافعي ليحدثونا عن تاريخ الفيروسات

يكاشفنا عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في كتابه "من بعيد" بحقيقة فاجعة عن حالة العلم في عصره، والتي امتدت لوقتنا الراهن، حينما ذكر أنه ليس بمصر علم، وإنما هي في علمها عالة على أوروبا والولايات المتحدة تستعير منها كل شيء. ويضيف أننا لم نحسن حتى استعارة العلم من هناك، بل ولا نستطيع أن نستعير من الغرب الأوروبي وأميركا ما هي في حاجة إليه أو جزءا موفورا مما هي في حاجة إليه.

وهذه الصرخة العميقة التي أطلقها العميد طه حسين هي بمثابة استشراف لمستقبل آت، أي أيامنا العلمية الراهنة التي نحياها ونحن بصدد مواجهة الجائحة الكونية كورونا والتي كشفت عورات البحث العلمي العربي وأودت به إلى الجولة الأخيرة في حلبة الملاكمة العلمية التي ستنتهي بالخسارة العلمية العربية بالضرورة لأسباب تطرقنا إليها سالفا وأوردنا الكثير والكثير من شواهد الفشل العلمي في بلادنا العربية.

وفكرة أن تكتشف معدنا أو تجري بحثا كيميائيا أو تجربة معملية لإدراك مسافة الزمن وحجم النواة وغير ذلك من موضوعات العلم المستهلكة، فما أنت سوى عجلة تدار لإعادة إنتاج الماضي العلمي في الغرب الأوروبي، وفكرة وهم الاستشهادات العلمية بأبحاث عربية هي فكرة تم تصديرها إلينا من أجل أن نستغرق في صناعة دراسات قد تفيد الغرب من ناحية، وأن نظل بمنأى عن واقعنا العربي وبيئاتنا المحلية التي هي بحاجة حقيقية لجهود العلماء.

وكان على علماء العرب أن يفقهوا مقولة الدكتور طه حسين وهو يشير إلى ضرورة استقراء التاريخ وهو الأمر الذي غفل عنه علماء بلاد العرب. فقديما كان علماء العرب الأوائل يتخذون الماضي وسيلة إلى فهم المستقبل، أو كما يذكر أوضح وسيلة إلى الاستعداد للمستقبل. وربما أصبح علماء العرب المعاصرون استمرأوا فكرة عدم الاكتراث بالتاريخ واستنباط ما به من شواهد ورساميل أساسية يمكنها توصيف الواقع، ومشكلة المشاكل في منظومة تدريس العلوم بالكليات العلمية واسعة الانتشار قليلة النفع في بلادنا العربية أنها لا تتخذ من فلسفة العلوم ركيزة رئيسة ومنطلقا حيويا لاستشراف أكوان العلوم المعاصرة التي بالطبيعي نحن بمنأى عن رصدها واستعارتها.

ولا زلت عند رأيي مثل كثيرين أن معظم البلدان العربية تتكبد ملايين الدولارات إنفاقا على حفنة من المبتعثين إلى الخارج من أجل الحصول على درجة الدكتوراه في أحد التخصصات العلمية كالكيمياء والفيزياء والحيوان والنبات والرياضيات والبيولوجيا، وأن قياس العائد بعد عودتهم عادة ما يكون معدما أو بغير قيمة يمكن رصدها اقتصاديا. فنحن نقر ونجزم اعترافا بأن أولئك المبتعثين للخارج في مجالات وفروع العلوم الأساسية ذهبوا وجاءوا إلى بلادنا العربية بشهادة الدكتوراه في العلوم فقط دون أن يأتوا بعلوم الغرب بدليل عدمية التطبيق، وما ذكره فضيلة الإمام أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف في مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي، بعد حديثه عن تجديد الخطاب الديني موجها كلامه لرئيس جامعة القاهرة الدكتور محمد عثمان الخشت وهو يجدد أحزاننا بشأن المشهد العلمي الخاص بكليات العلوم والصيدلة ليس ببعيد عن الذاكرة بأننا لم نفلح في إنتاج ما هو نافع ووظيفي لبيئاتنا العربية الخالصة.

مفاد القول إذن ونحن نتابع في خوف وقلق ورهبة مشاهد الموجة الثانية لجائحة كورونا وربما نترقب نزوحا ثالثا للجائحة في تحور مفاجئ للفيروس قد يصيب الخلايا العصبية ويباغتنا بالسكتة الدماغية، أن علماء الداخل ـ إن صح الوصف والتوصيف لكلمة علماء ـ لم يتفرغوا بجدية لمواجهة الفيروس الشرس، وأن الأبحاث المشار إليها بالمواقع الإلكترونية العربية هي ثمة بحوث وصفية لا أكثر عن الفيروس وتحوره وتاريخ وجوده وطريقة انتشاره، وهو الأمر الذي يسهم في إسراع عجلة الذعر لسببين؛ الأول أن كوفيد19 لا يزال أكثر غموضا عن الاقتناص، الثاني أن البحث العلمي رغم مؤتمراته وأساتذته ومعامله ومختبراته تشكل وهما بالذاكرة العربية.

ومن أجل ألا نسير في فلك المحبطين ومروجي الاكتئاب، ودونما رجعة لنقد العقل العربي الذي بات منذ عقود، بل قرون بحاجة ضرورية إلى تثويره وتجديده وتنويره بطاقة إلهية وليست بشرية، فإن أشعة الأمل الضعيفة لابد وأن تتجاوز حدود وتخوم الأوهام العربية من نسب الاستشهادات العلمية لأبحاثنا، ومنصات التتويج في أعياد العلم لحفنة من أساتذة الجامعات الذي كتبوا ودخلوا معاملهم وخرجوا بنتائجهم الذاتية لكن قياس عائد نفعهم الحقيقي هو طلابهم الذين لم ينفكوا عن قلق الاختبار وصعوبة الأسئلة وترقب نتيجة الامتحان فقط، وكذلك هروبا من المسابقات الوهمية الكاذبة مثل المكتشف الصغير والمخترع الصغير ومسلسلات الموهوبين في الأرض محاكاة لرائعة العبقري طه حسين "المعذبون في الأرض"، هذا التجديد البشري الضيق الذي قد ننشده لن يتحقق إلا من خلال خطة حقيقية لاستشراف المستقبل بكل تحدياته وطموحاته لأن جائحة كورونا التي فرضت نفسها وسط تخمينات كاريكاتورية بانقضائها على المشهد العلمي أكثر من الحياة المجتمعية، وبات من الكذب تصديق هؤلاء الأكاديميين أنهم ليل نهار يذهبون إلى معاملهم.

لأنه باختصار إذا كان فيروس كوفيد 19 يمثل كابوسا لا يمكن ملاحقته أو تتبعه في عُرف البسطاء والعامة من أمثالي غير المتخصصين في مجالات العلوم الأساسية، فإن خبراء العلوم والبيولوجيا والحيوان وأساتذة الميكروبات والفيروسات هم الأكثر قدرة في الانقضاض على شراسة الفيروس، لكن مشهدنا العلمي الراهن الأشد بؤسا وحزنا وقهرا في بلادنا العربية أننا مجرد موظفين نقوم بثمة أبحاث ودراسات تأريخية عن الفيروس وهذا يمكنني أنا وغيري القيام به، ويقومون وفي ظنهم المريض أنهم جادون في القصد والمقصد والهدف بتتبع دورة حياة الفيروس وبطرائق تحوره وتمايزه المرحلي، دون أي ضوء يحمل الأمل للفتك بالفيروس سوى أنهم ينصحوننا بارتداء الكمامات ويشيدون باستعمالها.

ومن ضائقة النفس والوقت أيضا، أن نجد أساتذة العلوم والصيدلة يتفرغون عبر الفضائيات الفارغة من المضمون والجدوى ليتقمصوا أدوار ابن خلدون وابن بطوطة والجبرتي والرافعي وأخيرا محمد حسنين هيكل ليحدثونا عن تاريخ الفيروسات على سطح الكرة الأرضية وأشهر الأوبئة وكيفية انتشارها وكيف قضت الأنفلونزا على الملايين في إسبانيا عام 1918 وكل هذه المعلومات تم سردها عن طريق المئات غير المتخصصين، لكن هذا يكشف مأساة غير مختبئة أو سرية؛ أن مثل هذه المعلومات هي التي تقدم لطلابنا بمعاهدنا العلمية العربية لا أكثر، وأن هؤلاء العلماء بخبراتهم وبابتعاثهم الخارجي غير المفيد وببحوثهم المتواترة على الأرفف بغير فائدة بحجة نقص الإمكانات والعوامل المادية انكشفت حقيقتهم بصورة جلية لا تحتاج إلى ثمة دفاع أو تبرير.

وكل ما يطمح إليه العقل العربي العام هو وجود كيانات علمية حقيقية، وأقصد بكلمة حقيقية أنها أكثر صدقا أكثر نفعا أكثر واقعية، وما أجمل أن تتحول هذه البحوث العلمية إلى يقين معاش من خلال ربطها ببيئة حقيقية أو عبر افتراض ملامح استشرافية للمستقبل، لأنه بات من العبث بل من مرارة حياة راهنة أننا نبحث عن كل جديد في العلوم من مصادر غربية أجنبية وأن محركات البحث الإلكترونية تتجه دوما ناحية الشمال والغرب دون أدنى إشارة إلى بوصلة الوطن العربي الكبير.

ولأن علماءنا البعيدين عن السباق العلمي العالمي مولعون بالتاريخ من حيث تتبع قصة حياة فيروس كورونا وكتابة تراجم سيرية عن مراحله، فمن الأولى أن يدركوا ثمة حقائق مهمة عن التاريخ لا من أجل الثقافة العامة بل رغبة صادقة في استشراف المستقبل حتى يأتي يوم تستحيل فيه البلدان العربية مهبط البعثات الأجنبية، منها أن التاريخ يوم أساسا على فكرة الزمان، والزمان في كنهه لا يقبل الإعادة، وعلماء الفيزياء في الغرب يؤكدون أن الصفة الأساسية للزمان هي الاتجاه، والاتجاه في عرُف وفلسفة الغرب المتقدم يقتضي ضرورةً أن يسير قدما للأمام لا للخلف بغير تكرار أو تشابه، وبدلا من أن يقضي علماؤنا في مهمة تسجيل تاريخ الفيروس عليهم بالحتمية أن يتفرغوا لإجراء هجمة مضادة مستقبلية للمواجهة ولاستشراف احتمال وجود فيروسات قادمة من أجل كيفية مواجهتها هذا هو هدف العلم.

ولربما أكون أكثر قسوة في مواجهة العلوم العربية حينما أقول بأن العلوم الأساسية في وطننا العربي لا تكاد تختلف عن علوم مثل الوثائق والمكتبات والتاريخ والآثار، وتختلف عن اللغة بوصف الأخيرة في استشراف وديمومة مستمرة وحراك يفرض عليها مصطلحات ومفاهيم جديدة.