جدّ وأربعة اجيال في "طرائق مختلفة للنظر إلى الماء"

كل شخصية في رواية خوليو ياماثاريس تقص الحكاية من وجهة نظرها، لكن يبقى مركز الحكاية القرية النائمة تحت سطح مياه البحيرة وعودة الجد إليها في قارورة جنائزية.

رواية "طرائق مختلفة للنظر إلى الماء" للروائي والشاعر والصحفي خوليو ياماثاريس، رواية كورالية يعزفها أفراد أربعة أجيال لعائلة الجد دومينجو حيث اجتمعت لنثر رماده في مسقط رأسه وفقا لوصيته، لتتجلى حيوات الذاكرة والحنين إلى الماضي، حيث يعيدون بناء تاريخهم العائلي جنبا إلى جنب تاريخ القرية التي هجّروا منها مجبرين، كل واحد ينظر إلى الماء وما يكمن تحته بعيون مختلفة، حيث يتأثرون بذاكرة القرية التي غمرتها المياه تحت المستنقع. في هذه القرية أمضوا حياتهم قبل أن يضطروا إلى التخلي عنها للتنازل عن الأرض لمشروعات خزانات المياه للديكتاتور فرانكو. إنها رواية حياة مؤلمة دون عودة.
الرواية ترجمها الشاعر والمترجم د.طلعت شاهين الذي أضاء في تقديمه جوانب مهمة للطبيعة الجعرافية لشبه الجزيرة الايبيرية (إسبانيا والبرتغال)، كون الرواية تدور في فلك القرى الإسبانية التي كانت حتى وقت قريب منتشرة بين جبال إسبانيا وسفوحها وبدأت تنقرض بعد أن هجرت الأجيال الجديدة تلك القرى إلى الدول الأوروبية الأخرى أو إلى المدن الإسبانية الكبيرة بحثا عن فرص عمل وحياة أفضل تروج لها وسائل الإعلام المعاصرة التي تدعو إلى كل ما هو استهلاكي، رغم أن تلك القرى كانت تلعب دورا مهما في تاريخ إسبانيا من خلال عمل سكانها في المجال الزراعي، وكان يسكنها قطاع كبير من العاملين في مجال الرعي.
يقول شاهين في مقدمته للرواية التي تصدر عن دار صفحة للنشر والتوزيع أنه "نظرا للعوامل الجغرافية والمناخية لشبه الجزيرة الايبيرية (إسبانيا والبرتغال)، وندرة الأنهار التي تغذي سكانها بالمياه، أنهارها قليلة وصغيرة المجرى، بعضها مجراه عميق بشكل كبير لا يسمح باستخراج المياه، أو يجعل استخراج مياهها صعبا للغاية، وأيضا اعتماد تلك الأنهار على مصادر تغذية خاضعة لتقلبات المناخ، تأتي من ذوبان الثلوج التي تتجمع على بعض القمم العالية لتلك لجبالها، أمر يخضع لأهواء الطبيعة، ويصيب البلاد بالقحط في حال انخفاض معدل سقوط الجليد على تلك القمم الجبلية، أو يعرضها لفيضانات تغرق حقولها وقراها وتتسبب لسكانها بخسائر فادحة. 
ويضيف "من هنا اهتمت إسبانيا منذ زمن قديم بمشروعات تنمية المياه على امتداد جغرافيتها الواسعة، ويذكر التاريخ أن الرومان خلال احتلالهم أنشأوا فيها العديد من المشروعات لنقل المياه من مكان إلى آخر ولا تزال المجاري المائية التي أقاموها شاهدا على تلك المشروعات، ويعتبر مجرى المياه المقام في سيجوبيا لنقل المياه من طرف الوادي العميق إلى الطرف المقابل أحد تلك الظواهر، إضافة إلى العديد من القناطر التي أقيمت في الوديان العميقة. ثم جاء العرب من بعدهم لينقلوا خبرتهم في زراعة الري الدائم واستخدموا تقنيات الري المستجلبة من بلاد إسلامية زراعية مثل مصر والشام، لا نزال آثارها موجودة، بشكل خاص في مناطق السهول الواقعة على البحر المتوسط، بل وعرفوا وطبقوا قوانين توزيع المياه بين المزارعين، شاهد عليها اليوم "محكمة المياه" التي تقام أسبوعيا، في الساعة الثانية عشر من كل يوم خميس عدا أيام الأعياد والعطلات الرسمية، بشكل رمزي أمام برج كاتدرائية "الميجيليتي" في فالنسيا".
ويلفت شاهين إلى أن تلك السياسات الباحثة عن كيفية الاهتمام بتوفير المياه استمرت حتى العصر الحديث، وكانت خطة التوسع في إقامة السدود قد بدأت بخطة عامة وضعتها حكومة البلاد في العام 1902، ثم جاءت من بعدها خطة عام 1936 التي استغلت تقنيات أكثر حداثة بإقامة سدود في الوديان العميقة من المناطق الممطرة بحيث يجري إقامة بناء شاهق بين الجبلين اللذين يقتربان من بعضهما عند نهاية كل وادي، يحتجز خلفه مياه الأمطار في مواسمها الغزيرة، يجري التحكم في تلك المياه من خلال فتحات بجسم السد، تقف من خلفها توربينات لتوليد الطاقة الكهربائية، وتسمح بمرور كمية كافية لري الأراضي المحيطة.
ويتابع "جاء بعد ذلك نظام الدكتاتور الجنرال فرانكو ليؤسس لخطة دعائية ضخمة تستغل إقامة مثل تلك السدود وخزانات المياه باعتبارها مشروعات قومية، إلا أن هذا التوسع الكبير في إنشاء خزانات المياه كانت له آثاره السلبية اجتماعيا، الكثير من تلك السدود حجزت المياه من خلفها في وديان عميقة بها العديد من القرى مما أدى إلى إغراقها وتهجير سكانها بالقوة الجبرية إلى مناطق السهول البعيدة عن الخزانات، بعد وضع يد الدولة عليها مقابل أموال زهيدة لا تكفي لإقامة حياة جديدة في الأماكن الأخرى، أماكن تختلف جغرافيا ومناخيا عن القرى الغارقة، إضافة إلى تشتيت شمل سكان القرى الغرقة بعد نزعهم من جذرهم، وأماكن أجدادهم، حتى أن الكثير من تلك القرى لم تجد الوقت والمال الكافي لنقل قبور آبائهم وأجدادهم، مما أدى إلى ما يشبه الفصام في معظم سكان تلك القرى خاصة بي كبار السن منهم.
ويشير شاهين إلى أن بعض الكتابات الأدبية عكست هذا الواقع الجديد وآثاره على سكان القرى القديمة الراقدة تحت مياه تلك الخزانات، وكان الشاعر والروائي خوليو ياماثاريس من أهم هؤلاء الكتاب، كتب أولا عن القرى التي كانت تندثر بسبب هجرة سكانها إلى المدن بحثا عن حياة اكثر رفاهية، كانت روايته "المطر الأصفر" التي ترجمناها قبل أكثر من ثلاثين عاما نموذجا حيا لتخليد تلك القرى المندثرة. ثم جاءت روايته الأخيرة "طرق أخرى للنظر إلى الماء" لتعكس أثر السدود والخزانات المائية على سكان القرى القديمة التي أغرقتها تلك الخزانات.

أحداث الرواية تنطلق خلال مشهد تجمع الأسرة لوداع رماد الجد إلى الأبد في قاع بحيرة الخزان الذي كان سببا في تهجيره قسرا من المكان

ويرى أن رواية " طرق أخرى للنظر إلى الماء" جاءت مختلفة في تقنية كتابتها عن كتابات خوليو ياماثاريس الأخرى، ونظرا إلى أنها تتناول حياة عائلة من تلك العوائل التي أجبرت على الهجرة من أرض أجدادها، وجاءت الكتابة لتسجل هذا الواقع بعد عشرات السنين من الحدث، كان لا بد من البحث عن تقنية تعكس رؤية الأجيال المختلفة من تلك العائلة، وموقفها من حدث إنشاء هذا المشروع الضخم الذي أثر على مجرى حياتهم حتى الجيل الثالث. الجد "دمينجو" ورب الأسرة قرر الصمت وعدم الحديث عن قريته القديمة، بل وامتنع عن زيارتها في الأوقات التي كانت تنخفض فيها مياه خزان السد، فتظهر بقايا قريته، وتصبح مزارا جاذبا لسكانها القدامى، يصطحبون أبناءهم وأحفادهم لرؤية تلك الأطلال، وينتهزون الفرصة ليحكوا لهم حكايات تعود إلى الزمن القديم عندما كانت حياتهم مستقرة فيها. لكنه فاجأ الجميع بأن أوصى أن يدفن في مسقط رأسه، أمر مستحيل تحقيقه نظرا لغرق مقابر الأسرة، التي تضم أجساد العائلة الراحلين بما فيهم الابن البكري الذي مات في طفولته، لتحقيق أمنية الجد كان لا بد من اللجوء إلى طقس جديد انتشر مؤخرا في العديد من بلاد العالم بما فيها إسبانيا: إحراق جثته ونثر رماده على سطح مياه بحيرة الحزان.
ويضيف "خلال تحقيق أمنية الجد، أو تنفيذ وصيته تبدأ حكاية رواية هذه القرية الغارقة تحت سطح الماء منذ اكثر من نصف قرن من الزمان، أيضا تبدأ رواية مأساة سكانها. الجدة التي عاشت حياتها كلها في القرية ولم تخرج منها إلا لأسباب قاهرة، تلك المرأة المحافظة رفيقة درب وحياة الجد، رغم تدينها، تقبل بإحراق جثة الجد لأنها تنفيذ لوصيته، حتى يعود وتستقر روحه التي هامت خلال حياته بعيدا عن مسقط رأسه".
ويوضح شاهين أن أحداث الرواية تنطلق خلال مشهد تجمع الأسرة لوداع رماد الجد دومينجو ليرقد رماده وإلى الأبد في قاع بحيرة الخزان الذي كان سببا في تهجيره من المكان قسرا. بينما ابنته الكبرى تحمل "القارورة الجنائزية" على شاطئ بحيرة الخزان الأقرب من قريتهم الغارقة، تبدأ صمت تدفع كل شخصية إلى التفكير والتأمل وتقديم وجهة نظرها في هذا الواقع الناتج عن تهجير قسري طبع حياتهم جميعا، من أول الجدة وحتى أصغر الأحفاد والحفيدات. كل شخصية في الرواية تقص الحكاية من وجهة نظرها، لكن تظل القرية النائمة تحت سطح مياه البحيرة وعودة الجد إليها في قارورة جنائزية مركز تلك الحكاية. حكاية يشارك الجميع روايتها، تبدأها الجدة، رفيقة حياة الجد دومينجو، إلى الابنة الكبرى والأخ الأكبر، إلى الأحفاد والحفيدات، بل وتصل المشاركة إلى تقديم وجهة نظر طليق الابنة الكبرى، وإحدى خطيبات أحد الأحفاد، أجنبية إيطالية الجنسية، تتابع ما يحدث من احتفال طقسي يبدو غريبا عنها، لكنها تربطه أيضا بأحد أفراد عائلته في إيطاليا، قرر العودة إلى قريته على نفس طريقة الجد هنا".
تتكون الرواية من سبعة عشر فصلا، ستة عشر فصلا كل واحد منها عنوانه باسم شخصية الراوي، ليأتي الفصل الأخير تعليقا على المشهد يبديه سائقو السيارات المارة بالمكان لحظة تنفيذ وصية الجد. من الفصل الأول وحتى الفصل الأخير يمكننا أن نتابع وهج الذكريات القديمة، وكيف أن هذا الوهج يخفت مع ابتعاد الشخصية عن القرية لقلة ذكرياتها فيها بالنسبة لبعض الأبناء، ولدوا في القرية لكنهم غادروها صغارا فاختلطت ذكرياتها بذكريات القرية التي نشأوا فيها، أو لانعدام تلك الذكريات أصلا كما هو الحال بالنسبة للأحفاد الذين وُلدوا في أماكن بعيدة ولم يعيشوا لحظة التهجر الإجباري والنزع من الجذور. نتدرج في المشاعر تجاه القرى الغارقة ومشروعات خزانات المياه لتصبح المسألة في النهاية مجرد وجهة نظر تجاه كل هذا، من الارتباط الكامل بالمكان والبكاء على ذكريات الحياة في المكان والالتصاق به وألم فراقه، إلى مجرد الحنين لبعض ذكريات الطفولة للشخصيات التي خرجت منها في وقت مبكر فارتبطت بمكان حياتها الجديد، لتصل في النهاية إلى اللامبالاة للشخصيات التي ولدت ونشأت بعيدا ولا تعرف عن المكان سوى ما سمعته من الآباء والجد والجدة، حتى نصل إلى تعليق سائقي السيارات المارة تجاه مشهد العائلة الجنائزي باعتبارها زيارة سياحية للاستمتاع بمشهد الطبيعة الخلابة التي تحيط بخزان مياه السد.