'جلجامش'.. رحلة بصرية تبحث في معنى أن تكون إنسانا
يستحضر الفنان التشكيلي العراقي صبيح كلش في معرضه الجديد "جلجامش.. معنى أن تكون إنسانًا" سيرة واحدة من أقدم الملاحم الإنسانية، ليحولها إلى تجربة بصرية مفعمة بالتأمل والأسئلة، تستنطق الميثولوجيا السومرية والبابلية بأدوات فنية معاصرة، وتُعيد رسم الملامح القلقة للذات البشرية في مواجهة مصيرها المتقلب.
ويتضمّن المعرض الذي يُقام في غاليري الأورفيلي بالعاصمة الأردنية عمّان، مجموعة من الأعمال التشكيلية التي تنصهر فيها الرموز القديمة مع الواقع المعاصر، ليولد من هذا التلاقي فضاء فني تفاعلي ينبض بالرمزية والتأويل، متكئًا على قصة جلجامش، الملك الذي شق طريقه بين الحياة والموت في بحث أزلي عن الخلود، بعد فقد صديقه أنكيدو.
ويُقدم الفنان أعماله بأسلوب لا يوثق بصريًا للملحمة، بل يعالجها كمدخل فلسفي لمعالجة قضايا الإنسان المعاصر، حيث يغلف الخلود بألوان الفقد، ويواجه الأمل بظلال الخذلان، في رؤية فنية تدمج بين الميثولوجي والسياسي، وبين التاريخي والذاتي، محملة بإرث وطن جُبل بالحروب والمنفى والتوق إلى السلام.
وتتجلّى في اللوحات علاقة معقدة بالهوية والذاكرة، من خلال رموز مثل الثور السماوي، والأفعى، والأبواب الحجرية، والخط المسماري الذي يظهر كندبة غائرة في الجسد أو كصدى لنقوش باهتة في الخلفيات، في توظيف بصري يعمق من الأبعاد التاريخية والإنسانية للأعمال.
ويظهر جلجامش، في إحدى اللوحات، بملامح متداخلة متشظية تعلوها آثار الحرب والغضب، متأملًا الفراغ في لحظة مواجهة صامتة مع ذاته، في تعبير عن هشاشة الإنسان مهما بلغ من سلطة وقوة. وقد اختار الفنان تركيب المعرض في شكل متاهة، تحاكي الرحلة الموحشة التي خاضها جلجامش، في إشارة رمزية إلى دروب الإنسان المحفوفة بالتساؤلات والمخاوف.
وتطغى على أعمال المعرض الألوان الترابية والداكنة، لترمز إلى العمق الوجداني والمأساوي الكامن في التجربة، في ما ابتعد الفنان عن تقديم إجابات مباشرة، مفضلًا أن يترك لوحاته تطرح الأسئلة: هل يستطيع الفن أن يعيد ترميم ما أفسده الزمن؟ وهل تمنحنا الأساطير القديمة عزاءً لفهم حاضر مثقل بالتحولات؟
والفنان صبيح كلش من أبرز الفنانين العراقيين الذين امتدت تجربتهم بين الوطن والمنفى، ويمتاز بأسلوبه الذي يوظف الأسطورة والتاريخ لإعادة مساءلة الحاضر، مقدمًا عبر معرض "جلجامش" رحلة بصرية تستنطق سؤالًا جوهريًا يخصنا جميعًا: ما معنى أن تكون إنسانًا؟