حاجة الجزائر الى الجمهورية الثانية

احمد قايد صالح رجل المرحلة المقبلة. هل يمهّد للجمهورية الثانية عبر استيعاب المطالب الشعبية... ام يكون مجرّد ضابط آخر وضع نفسه في خدمة جمهورية بومدين؟

يستمر الحراك الشعبي في الجزائر. اثبت الحراك انّ هناك جيلا جديدا من الجزائريين يريد نقل البلد الى مكان آخر بعيدا عن نظام الجمهورية الاولى القائم منذ الاستقلال والذي اسّسه هواري بومدين الذي أطاح احمد بن بلّة في العام 1965. كان العمود الفقري لهذا النظام المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية التابعة لها التي أبعدت عبدالعزيز بوتفليقة عن الرئاسة في العام 1979 ليقع خيارها عليه في 1998 عندما قررت ان يكون في قصر المرادية (قصر الرئاسة) في 1999. من يعرف، ولو القليل عن الجزائر، يعرف ان المؤسسة العسكرية وجدت في 1998 انّها في حاجة الى عبدالعزيز بوتفليقة في ضوء ما يمتلكه من صفات. في مقدّم هذه الصفات وجود شرعية معيّنة له بصفة كونه من رفاق بومدين في مجموعة وجدة، المدينة المغربية، التي ولد فيها الرئيس الجزائري المستقيل، والتي كانت مكانا لجأ اليه عدد من قادة الثورة الجزائرية ابان حرب الاستقلال.

كان الحراك الشعبي وراء دفع عبدالعزيز بوتفليقة والذين يقفون خلفه ويتحكمون بقراره الى الاستقالة قبل انتهاء ولايته الرئاسية. اجبره الحراك قبل ذلك على سحب ترشيحه من اجل ولاية رئاسية خامسة. في الواقع، لعب الحراك الشعبي المستمرّ منذ أسابيع عدّة دورا في دفع المؤسسة العسكرية الى اخذ المبادرة ووضع حدّ للمهزلة الجزائرية التي اخذت بعدا جديدا في العام 2013 عندما تعرّض بوتفليقة لجلطة جعلت منه رئيسا مقعدا لا يمتلك القدرة على القاء خطاب يتوجّه به الى الشعب الجزائري ويطلعه على حقيقة وضعه.

تحرّكت المؤسسة العسكرية التي كان المحيطون ببوتفليقة يعتقدون انّهم قطعوا اوصالها عبر نائب وزير الدفاع رئيس الأركان احمد قايد صالح. نقل نائب وزير الدفاع رسالة واضحة الى كلّ من يعنيه الامر. فحوى الرسالة ان كفى تعني كفى وان "العهدة الخامسة"، كما يقول الجزائريون لن تمرّ.

كانت المجموعة المحيطة ببوتفليقة، وهي مجموعة يتزعمها شقيقه سعيد، تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية منذ 2013 حين تعطّل دماغ الرئيس الجزائري المستقيل. لم تتوقّع هذه المجموعة تحرّك المواطنين الجزائريين بكل هذا الزخم وهذه الكثافة ردّا على الإعلان نيّة بوتفليقة ترشيح نفسه في وقت كان يتلقّى علاجا في احد المستشفيات السويسرية، لعلّه يستعيد ولو القدرة على قول كلمة نعم او لا في اثناء الحملة الانتخابية.

من الواضح ان افراد المجموعة المحيطة ببوتفليقة كانوا يمتلكون كمّية من المصالح المتشعّبة حملتهم على الذهاب الى النهاية في السعي الى "العهدة الخامسة". كان هدفهم حماية تلك المصالح. استخفّوا بالشعب الجزائري، كما استخفّوا بالمؤسسة العسكرية التي تعتبر نفسها "حامية للجمهورية" وتتغطّي بهذا الشعار لممارسة السلطة... او حصتها من السلطة كما حدث في عهد بوتفليقة الذي بدأ في العام 1999 واستمرّ عشرين عاما بينها ستّة أعوام كان فيها الرئيس الحقيقي شقيقه سعيد والمجموعة الصغيرة المحيطة به. الى جانب الاستخفاف بالشعب الجزائري، فشل افراد المجموعة في العثور على شخص يقدّم لهم الضمانات المطلوبة في حال خروج بوتفليقة من الرئاسة. لكنّ الاهمّ من ذلك كله كان استخفافهم باحمد قايد صالح، الذي كان مفترضا ان يكون بمثابة خاتم في أصابع افراد المجموعة.

اتخذ احمد قايد صالح، في مرحلة ما بعد ترشيح عبدالعزيز بوتفليقة لولاية خامسة، سلسلة من المواقف الحازمة. بدأت هذه السلسلة بمصارحة بوتفليقة بان لا خيار امامه غير الاستقالة، وصولا الى حملة شنّها على الجنرال محمد مدين (توفيق) المسؤول حتّى 2015 عن المخابرات العسكرية، إضافة الى لعبه دور الرجل القويّ لسنوات طويلة، مرورا بوصف المجموعة المحيطة بالرئيس الجزائري السابق بـ"العصابة". لا يمكن الاستهانة باحمد قايد صالح الذي يبلغ التاسعة والسبعين من العمر، والذي لم يفوت فرصة الّا وكشف فيها انّ لا مفرّ من التعاطي معه.

سيكون دور احمد قايد صالح في غاية الاهمّية، بل محوريا، في الأشهر القليلة المقبلة، خصوصا بعدما اختار اللجوء الى الدستور وما ينص عليه في حال الفراغ الرئاسي. لذلك اصبح عبدالقادر بن صالح رئيسا موقتا. حدّد بن صالح يوم الرابع من تموز – يوليو المقبل موعدا للانتخابات الرئاسية.

كان عبدالقادر بن صالح في بيروت مسؤولا عن المركز الثقافي الجزائري بين العامين 1970 و1974. الأكيد ان تلك المرحلة التي كان فيها لبنان في عصره الذهبي، كما كانت بيروت عاصمة الاعلام العربي، مكّنت الرجل، الدمث، من امتلاك خبرة معيّنة. لكنّ الأكيد أيضا انّه ليس في وضع يسمح له بان يكون مرشّحا جديا لخلافة بوتفليقة. يعود ذلك الى أسباب كثيرة. من بين هذه الأسباب ارتباطه بالنظام القائم وعدم وجود قاعدة شعبية له.

ستحدد الأشهر المقبلة ما اذا كانت الجزائر ستنتقل الى الجمهورية الثانية، أي الى ما يطمح اليه الشباب الجزائري. تعني الجمهورية الثانية، قبل ايّ شيء آخر، التخلّص من العقد التي ارتبطت بالجمهورية الاولى. في مقدّم هذه العقد الاعتقاد ان الجزائر قوّة إقليمية لديها ما تقدّمه للمنطقة المحيطة بها ولأفريقيا. تبيّن مع مراجعة ما قدّمته الجزائر انّه لم يكن لديها سوى الشعارات الفارغة والفشل على كل صعيد، خصوصا على الصعيد الاقتصادي والتنموي والثقافي والزراعي. ليس لدى الجزائر في الوقت الراهن ما يغطي هذا الفشل غير عائدات النفط والغاز التي كان يذهب بعضها لرشوة الشعب لا اكثر، فيما كان يذهب معظم البعض الآخر لاصحاب ما يسميه المواطن بـ"السلطة".

يفهم الشعب الجزائري ان العيش عن طريق الرشوة لا يمكن ان يستمرّ الى ما لا نهاية وان الجزائر في حاجة الى الجمهورية الثانية التي يهتمّ فيها رئيس الجمهورية والحكومة بالجزائريين وحاجاتهم ورفاههم وليس باداة مثل جبهة "بوليساريو" تستخدم لابتزاز المغرب ليس الّا.

سيكون احمد قايد صالح رجل المرحلة المقبلة في الجزائر. هل يمهّد للجمهورية الثانية عبر استيعاب المطالب الشعبية... ام يكون مجرّد ضابط آخر وضع نفسه في خدمة الجمهورية الاولى وإعادة تكوين "السلطة"؟

تحتاج الجزائر، التي لا ينقصها أصحاب الكفاءات الى الجمهورية الثانية. لا يمكن للمؤسسة العسكرية السير مجددا في اتجاه استعادة الجمهورية الاولى عن طريق شخص شبيه ببوتفليقة. ثمّة حاجة الى شخص ينقل البلد من مكان الى آخر. من بلد جامد اسير شعارات بالية، الى بلد يحتاج الى إصلاحات كبيرة وفي العمق على كلّ المستويات تفاديا لانفجار كبير يدقّ الابواب. لن يكون سهلا القيام بهذه النقلة النوعية، لكنّ ما لا مفرّ من الاعتراف به انّ من بين العقبات التي ستعترض طريق قيام الجمهورية الثانية وجود أحزاب دينية مستعدة لادخال الجزائر في كلْ متاهات التخلّف مع ما يعنيه ذلك من توفير أسباب للمؤسسة العسكرية كي تقول انّ الجمود، أي البقاء في الجمهورية الاولى، لا يزال الطريق الاقصر لـ"حماية الجمهورية".