حبس وزير الصحة بحكومة الدبيبة ومسؤولين كبار في ملف فساد
طرابلس - أمرت النيابة العامة الليبية مؤخراً بحبس وزير الصحة في حكومة الوحدة الوطنية رمضان أبو جناح وعدد من كبار المسؤولين في الوزارة، في خطوة مثيرة تعكس مدى تغلغل الفساد داخل مفاصل الدولة الليبية، وبلوغه مستويات عليا باتت تهدد ما تبقى من ثقة المواطنين في مؤسسات الحكم.
وجاء قرار الحبس في إطار تحقيقات متعلقة بملف استيراد أدوية الأورام من الجمهورية العراقية، حيث ثبت للنيابة وجود خروقات جسيمة للإجراءات القانونية والفنية المعتمدة. وشمل قرار الحبس أيضاً مدير إدارة الصيدلة، ورئيس لجنة العطاء العام، ومسؤول لجنة العطاءات المركزية بالوزارة، إلى جانب مفوض إحدى شركات الاستيراد، مما يسلط الضوء على شبكة فساد واسعة النطاق ومترابطة في هذا القطاع الحساس.
وبحسب البيان الرسمي الصادر عن مكتب النائب العام، فقد كشف التحقيق عن تجاهل تام للضوابط الحاكمة لعملية شراء الأدوية، حيث تم تجاوز الإجراءات المالية والفنية والقانونية، دون تنسيق مع الهيئة العامة لمكافحة السرطان، وهي الجهة المختصة فنياً بالموافقة على استيراد هذا النوع من الأدوية. هذه المخالفات أثارت صدمة في الأوساط الطبية والسياسية على حد سواء، خاصة وأن القضية تمس مباشرة صحة المواطنين، وتفتح الباب مجدداً للحديث عن مدى هشاشة الرقابة على القطاعات الحيوية في ليبيا.
وتأتي هذه الحادثة في سياق عام يتسم بتفاقم ظاهرة الفساد في ليبيا، وفقاً لتقارير دولية عدة، من أبرزها تقرير منظمة الشفافية الدولية الذي صنف ليبيا ضمن الدول الأكثر فساداً على مستوى العالم لعام 2024، حيث جاءت في المرتبة 172 من أصل 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد. ويشير التقرير إلى أن الفساد في ليبيا لم يعد مقتصراً على المؤسسات الإدارية والمالية، بل بات يشمل مستويات عليا من المسؤولين، ويخترق قطاعات استراتيجية تمس حياة المواطنين بشكل مباشر، مثل الصحة والتعليم والطاقة.
ويعتقد أن ما جرى في وزارة الصحة يمثل حلقة من سلسلة طويلة من الانتهاكات المالية والإدارية التي تعاني منها ليبيا منذ سنوات، في ظل غياب منظومة محاسبة فعالة، وتفشي ثقافة الإفلات من العقاب، وهو ما شجع العديد من المسؤولين على الاستهتار بالقوانين والتلاعب بالمال العام دون خوف من المساءلة.
ويعزو خبراء ومحللون سياسيون تفشي الفساد في ليبيا إلى عدة عوامل متداخلة، أبرزها ضعف مؤسسات الدولة الرقابية والقضائية، والانقسام السياسي المزمن بين الحكومات المتنافسة في الشرق والغرب، إضافة إلى سطوة الميليشيات المسلحة التي تفرض نفوذها على مفاصل الدولة، وتعيق عمليات الإصلاح والمحاسبة. كما أن غياب الشفافية في آليات التعاقد والإنفاق العام، يترك مجالاً واسعاً للتلاعب وتضخيم الفواتير والصفقات المشبوهة، دون قدرة فعلية على تتبع الأموال أو محاسبة المسؤولين عنها.
ويُعد القطاع الصحي من أبرز القطاعات المتأثرة بهذا الواقع، حيث تعاني المستشفيات الليبية من نقص حاد في الأدوية والمعدات، في وقت تُهدَر فيه ميزانيات ضخمة تُخصص سنوياً للقطاع دون نتائج ملموسة على الأرض. ويعتبر ملف استيراد الأدوية، خصوصاً أدوية السرطان، من أكثر الملفات حساسية، نظراً لما يتطلبه من معايير جودة صارمة، وضمانات طبية تفتقر لها الصفقات التي تُدار في الخفاء.
ورغم الخطوات القضائية الأخيرة، وعلى رأسها تعهد النائب العام المستشار الصديق الصور بملاحقة جميع المتورطين في قضايا الفساد دون استثناء، إلا أن كثيرين يرون أن هذه الإجراءات تبقى محدودة الأثر ما لم تترافق مع إصلاحات شاملة تطال النظام الإداري والقضائي، وتُفعّل دور الأجهزة الرقابية والمحاسبية، وعلى رأسها ديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية.
من جانبه، كان رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، قد سارع إلى إصدار قرار بإيقاف وزير الصحة عن العمل وإحالته إلى التحقيق، في محاولة لاحتواء الغضب الشعبي، وتقديم صورة عن وجود نية للإصلاح. غير أن هذه الخطوة واجهت تشكيكاً واسعاً من قبل الناشطين، الذين يرون أن محاربة الفساد لا يمكن أن تتحقق في ظل استمرار غياب الإرادة السياسية الحقيقية، وتحكم مجموعات المصالح في مفاصل الدولة.
وتشكل القضية الأخيرة اختباراً حقيقياً لقدرة الدولة الليبية على استعادة هيبتها، ومواجهة سرطان الفساد الذي ينخر مؤسساتها. فحبس وزير في الحكومة ليس بالأمر الهين، لكنه في ذات الوقت لا يكفي لإقناع الليبيين بأن هناك تحولاً حقيقياً نحو دولة القانون، ما لم تتحول هذه المحاسبة إلى نهج مستمر، وليس مجرد إجراء ظرفي.
وفي بلد تتراجع فيه مؤشرات التنمية، وتتصاعد فيه معدلات البطالة والفقر، يصبح التصدي للفساد أولوية وطنية، ليس فقط لتحقيق العدالة، بل لإنقاذ مستقبل الأجيال القادمة من الانهيار.