حرب استنزاف في الجزائر

كان مفترضا ان يحصل التغيير الذي مهّد له بوتفليقة في 2014 بقطع الطريق على التغيير، شرّع سعيد بوتفليقة ورفاقه الأبواب امام المجهول. دفعوا ثمن لعبتهم تلك غاليا.

عاجلا ام آجلا، سيظهر هل تستطيع الجزائر التقاط أنفاسها والبناء على ما تحقق منذ اجبار عبدالعزيز بوتفليقة على الاستقالة، وقبل ذلك منعه من السعي الى ولاية رئاسية خامسة. في الواقع، لم يكن بوتفليقة نفسه يريد هذه الولاية، بل كان يقف وراء هذا المسعى افراد الحلقة الضيّقة التي كانت تحيط به والتي كانت تدافع عن شبكة المصالح التي ارتبطت بها.
افتقدت هذه الحلقة الضيّقة كلّ أنواع المخيّلة. تبين مع مرور الوقت انّها لم تكن تفهم طبيعة الشعب الجزائري، فضلا عن انّها كانت تنقصها القدرة على إيجاد صيغة لمرحلة ما بعد عبدالعزيز بوتفليقة تضمن عدم ملاحقة افرادها امام القضاء. الاهمّ من ذلك كلّه، انّها لم تستطع استيعاب انّها لم تدجّن المؤسسة العسكرية الجزائرية تماما وانّ النظام الذي صنعه هواري بومدين في العام 1965 ما زال حيّا يرزق. بل حيّا يرزق اكثر من اللزوم.
على غرار ما حصل في السودان، لعبت المؤسسة العسكرية الجزائرية دورها في التخلّص من تسلط المحيطين بعبدالعزيز بوتفليقة، على رأسهم شقيقه الأصغر سعيد الذي اعتبر ان مجرّد بقاء الرئيس الجزائري على قيد الحياة يعني انّ رئاسة الجمهورية في عهدة العائلة. بلغت الوقاحة بسعيد بوتفليقة ان وضع نفسه في موقع من سيختار الرئيس الذي سيخلف شقيقه الأكبر في حال وفاته قبل استكمال ولايته الخامسة. وكان هذا ما فشل فيه فشلا ذريعا. ادّى هذا الفشل الى توقيفه بطريقة مذلّة في انتظار يوم يمثل فيه امام القضاء.
حكمت الجزائر منذ وصول عبد العزيز بوتفليقة الى الرئاسة في العام 1999  شبكة من المصالح استطاعت السيطرة على مرافق الاقتصاد الوطني واستبعاد كلّ من يقف في طريقها بوسائل مختلفة. شمل ذلك ملاحقة القاضي الذي تابع قضية شكيب خليل والأشخاص الآخرين الذين كانوا يشكلون غطاء له في قضايا مرتبطة بمشاريع النفط والغاز التي ذهبت الى شركات أوروبية معيّنة، خصوصا في إيطاليا. كان شكيب خليل وزيرا للنفط بين 1999 و 2010 وكان أيضا رئيسا لشركة "سوناطراك" المسؤولة عن تسويق الغاز والنفط الجزائرييين بين 2001 و2003. لوحق خليل قضائيا وصدر حكم بادانته. لكن القضية انتهت بإعادة المحاكمة وابعاد القاضي الذي اصدر الحكم. شكل ذلك مثالا على مدى نفوذ افراد الحلقة الضيّقة التي كانت تحكم باسم بوتفليقة منذ وصوله الى الرئاسة. كذلك، كان ابعاد القاضي بنقله الى مكان آخر امثولة لكلّ من يتجرّأ على المسّ بمصالح مرتبطة بالحلقة الضيقة التي حكمت الجزائر في عهد بوتفليقة.
من الملفت انّ المؤسسة العسكرية في الجزائر ما زالت تسيطر كلّيا على الوضع الأمني وعلى الانضباط في صفوف المنتمين اليها. لم يحصل ما حصل في السودان حيث أقدمت عناصر "غير منضبطة" على قتل نحو مئة مواطن في "ساحة الاعتصام" في ما سمّي يوم "الاثنين الدامي" (اليوم الثالث والعشرون من شهر رمضان). يبدو ان المؤسسة العسكرية الجزائرية تعلّمت من تجارب الماضي ومن "عشرية الرماد". باتت تدرك ان ثمّة حدودا لا يمكن تجاوزها في حال ارادت البقاء لاعبا أساسيا في البلد. تحاول المؤسسة العسكرية الجزائرية لعب دور الحكم حاليا. أجبرت بوتفليقة على الاستقالة، لكنّا فشلت في اجراء انتخابات رئاسية في اليوم الذي حددته لهذه الانتخابات. استجابت لمطالب الحراك الشعبي من دون ان تستجيب له. لن تكون هناك انتخابات رئاسية في الرابع من تمّوز–يوليو المقبل واختار الرئيس المؤقت عبدالقادر بن صالح الكلام عن ضرورة اجراء مثل هذه الانتخابات خلال فترة "مقبولة". ما الذي يعنيه بكلمة "مقبولة" في وقت لا تزال المؤسسة العسكرية مصرّة على إيجاد طريقة لاستنساخ النظام الجزائري، نظام هواري بومدين، بطريقة لبقة. سلاحها في ذلك غياب القيادة السياسية في أوساط الحراك الشعبي الذي دخل يوم الجمعة الماضي اسبوعه السادس عشر.
تخوض المؤسسة العسكرية الجزائرية حرب استنزاف للحراك الشعبي. ليس معروفا بعد هل سيحل اليأس مكان الامل بتغيير النظام تغييرا كلّيا وجذريا في الجزائر؟ سيعتمد الكثير على قدرة الحراك الشعبي على إيجاد شخصيات تتحدّث باسمه وتحدد طبيعة النظام الذي يُفترض ان يخلف نظام هواري بومدين الذي استطاع عبد العزيز بوتفليقة تقمّص شخصيته، الى حدّ ما طبعا، الى حين تعرّضه لجلطة في الدماغ. حولّته الجلطة الى رجل مقعد غير قادر على الكلام بوضوح او التوجّه الى مواطنيه، بعد صيف العام 2013.
تحدّث عبد العزيز بوتفليقة في العام 2012،عندما كان لا يزال يمتلك كلّ قواه الجسدية والعقلية، عن احتمال تخليه عن السلطة. قال، وقتذاك، بكل بساطة ان أيام الجيل الذي انتمي اليه "ولّت". تحدّث مرات عدة عن ضرورة تسليم السلطة الى جيل مختلف. لكن الواضح ان حاله الصحيّة لم تسعفه. استغلّ افراد المجموعة الضيّقة المحيطة به تدهور حاله كي يعيدوا انتخابه لولاية رابعة. كان ذلك في العام 2014. كلّ ما يمكن قوله ان سعيد بوتفليقة ورفاقه حكموا الجزائر بين 2014 و2019 بشكل مطلق. استطاعوا حتّى التخلص من الجنرال محمّد مدين (توفيق) رجل البلاد القويّ في 2015.
كان مفترضا ان يحصل التغيير الذي مهّد له عبد العزيز بوتفليقة في 2014 بقطع الطريق على التغيير، شرّع سعيد بوتفليقة ورفاقه الأبواب امام المجهول. دفعوا ثمن لعبتهم تلك غاليا. الأكيد ان الثمن الكبير ستدفعه الجزائر التي لا يمكن ان تخرج من مأزقها في غياب القدرة على إيجاد قاسم مشترك بين المؤسسة العسكرية ممثلة بالجنرال احمد قايد صالح من جهة وقوى الحراك الشعبي من جهة أخرى.
مرّة أخرى، يمكن مقارنة الوضع الجزائري بالوضع السوداني. هناك في الوضعين حلقة مفقودة. يعود غياب هذه الحلقة الى الهوة القائمة بين المؤسسة العسكرية والحراك الشعبي. كما في السودان، لا وجود في الجزائر لشخصيات قادرة على ردم هذه الهوة تمهيدا للانتقال الى نظام جديد يؤمن الحد الأدنى من المطالب ينادي بها المتظاهرون في شوارع المدن المختلفة. ما يزيد في تعقيد الاوضاع في الجزائر والسودان غياب الاطار الذي يمكن ان يبحث فيه موضوع الشكل الجديد للنظام في البلدين. ففي الجزائر، طرحت فكرة "الندوة الوطنية" التي سحبت من التداول فجأة وذلك بعد اجبار بوتفليقة على تقديم استقالته. المشكلة ان لا بديل من هذه "الندوة الوطنية" ولا بديل من الاستعانة مجددا بشخصيات تاريخية بقي لديها ما يكفي من رصيد لدى الجزائريين كي يطمئنوا الى امكان جسر الهوّة بين العسكر والمجتمع المدني تمهيدا لتحديد تاريخ الانتخابات الرئاسية المقبلة او معالم الفترة الانتقالية التي ستمهد لمثل هذه الانتخابات في ظل دستور جديد.