حزب الله.. جدار يعزل اللبنانيين عن حلمهم

لا يمكن قيام دولة مدنية وديمقراطية وعصرية إذا بقي اللبنانيون مجموعة طوائف خائفة من بعضها وتصر كل منها على حماية ما تعتبره مصالح رعاياها.

بقلم: هشام ملحم
عكس الشعار الذي رفعته الثورة السلمية اللبنانية منذ بدايتها العفوية: "كلن يعني كلن" عمق السخط الشعبي في مختلف مناطق لبنان، وفي أوساط مختلف الشرائح الاجتماعية في البلاد.
صرخة جماعية تقول كفى لنظام الإقطاع السياسي والطائفي الذي يحتكر السلطة منذ تأسيس الجمهورية اللبنانية، والذي زج البلاد بنزاعات أهلية قام خلالها "الأوصياء" على الحكم بالتواطؤ مع قوى إقليمية ودولية لتحقيق مصالحهم الضيقة.
سمحت سنوات الحرب وسنوات "السلم" المتزعزع، منذ 45 سنة (1975 حتى اليوم)، سمحت للطبقة السياسية ـ الدينية بعرقلة نمو المجتمع المدني، ومنع بناء مؤسسات سياسية واقتصادية مستقلة وخاضعة للمحاسبة والمراقبة من قبل نظام قضائي مستقل بالفعل وبرلمان يشرّع بشفافية واستقلالية.
بالطبع، مثل هذه المؤسسات تنمو في دولة مدنية وعصرية، وليس في ظل نظام مبني على المحاصصة الطائفية ومصالح الإقطاع السياسي المتجذر. ما خلقته هذه الطبقة هو دولة تبدو ظاهريا حديثة ومتطورة و"خدماتية" بامتياز توفر الترفيه في فنادقها الفخمة ومطاعمها ونواديها الليلية الصاخبة لأثرياء العالم العربي والسياح، وتنتج القليل للاستهلاك المحلي، وتستورد كل شيء ذو قيمة، وتسود "ثقافة فساد" بيروقراطيتها على مختلف المستويات والإدارات والوزارات دون استثناء، بحيث أصبحت هذه الثقافة جزءا عضويا من "الشطارة" اللبنانية السيئة الصيت.
ما يثور ضده اللبنانيون اليوم، هو ما جنته عليهم هذه الطبقة المفترسة بشقيها السياسي والديني: السياسيون الذين يرتدون البزات الغالية، ورجال الدين الذين يلبسون العمائم وكل أنواع القبعات الدينية الأخرى.
نجاح الثورة يعني تهميش جميع أركان هذه الطبقة من خلال تطبيق سياسية "كلن يعني كلن". من هذا المنظور، الرئيس الذي يكّلف (ميشال عون) والرئيس المكلف (إن كان سعد الحريري، أو نجيب ميقاتي، أو محمد الصفدي، أو تمام سلام، أو حتى سمير الخطيب الذي ما إن سطع حتى أفل) ورئيس مجلس النواب الأبدي (نبيه بري) الذي سيشرعن الحكومة، هم جزء من المشكلة، وقطعا ليسوا جزءا من الحل. ولكن ليست كل العقبات أمام التغيير السياسي الحقيقي متساوية في عنادها وخطورتها.
الخطر المزدوج: "حزب الله" والتيار الوطني الحر
مع اقتراب هذه الحركة الثورية التغييرية الجذرية من شهرها الثالث، علينا أن نقول بوضوح ودون تردد، إن قوى الثورة المضادة لها والتي تسعى بالترهيب والتشويه وأساليب البلطجة إلى إجهاضها والحفاظ على النظام الطائفي الفاسد واحتكاراته الاقتصادية، وارتباطاته الخارجية الخطيرة على الوطن والمستقبل، هي الثنائي: "حزب الله" والتيار الوطني الحر وما يدور في فلكهما المظلم.
قيادة "حزب الله"، وتحديدا حسن نصرالله، حاولت في البداية التودد للمتظاهرين، ومع استمرار وتوسع الزخم الثوري بدأ نصرالله بمحاولة تشويه سمعة مئات الآلاف من اللبنانيات واللبنانيين من خلال ربط أحلامهم بالتغيير بأموال السفارات الأجنبية، من دون أن يبالي بتقديم دليل واحد على اتهاماته، وهو المرهون لنظام ديني متخلف ومستبد في إيران يستخدمه كأداة قمع وترهيب كما رأينا من "إنجازات" حزبه الدموية في سوريا.
وعندما سخر اللبنانيون من اجتهادات "حزب الله" واتهاماته وكذلك من حلوله الاقتصادية الصبيانية، لجأ الحزب وحليفه الأصغر ( يعني Junior ) حركة أمل إلى بلطجة وزعرنة ذوي القمصان السود بقلوبهم السوداء للاعتداء على المتظاهرين والمعتصمين السلميين.
يجب أن لا يتصرف أو يعتقد أي مشارك أو مشاركة في هذه الحركة التغييرية السلمية أن سيف ترهيب "حزب الله" ليس مسلطا فوق رأس كل مواطن لبناني يسعى لبناء دولة ديمقراطية حقيقية يعامل فيها كل لبناني بحقوق متساوية كمواطن وليس كعضو في طائفة.
ما يسمى بالتيار الوطني الحر، (ليس تيارا، وليس وطنيا، وقطعا ليس حرا) وهو أيضا شريك صغير لـ"حزب الله" أصبحت وظيفته الأساسية في السنوات الأخيرة توفير "غطاء مسيحي" للحزب الإيراني يضمن وصول زعيمه وجنرال حروب التحرير والإلغاء الدموية والفاشلة ميشال عون إلى الرئاسة ولو للبقاء فيها لبضعة سنوات لضمان توريث صهره جبران باسيل للمنصب.
احتكار "حزب الله" للسلاح، وعلاقته المتشعبة سياسيا وأمنيا وماليا واستراتيجيا بإيران، وعلاقة الحزب والتيار بالنظام السوري الذي أنقذته قوات إيران و"حزب الله" من ثورة شعبه، يعني ببساطة وبصراحة بالغة أن بين الثوار اللبنانيين ولبنانهم المنشود جدار سميك تكلله أسلاك شائكة يعرف أيضا باسم "حزب الله".
يقف اللبنانيون الآن أمام مفترق طرق. وليس من المبالغة القول إن هناك فرصة هي الأولى أمام اللبنانيين ـ وربما الأخيرة ـ منذ بداية الجمهورية اللبنانية، للتوصل إلى عقد اجتماعي ـ سياسي جديد، وجمهورية ديمقراطية حقيقية.
العقبات الأخرى، (من عائلات الإقطاع السياسي في مختلف الطوائف، إلى شركائهم في احتكار القطاعات الاقتصادية)، موجودة وحقيقية، ولكنها لا تملك السلاح وتفتقر إلى التنظيم الميداني وبالتالي غير قادرة على إجهاض الثورة بالقوة، كما أنها غير مرتبطة بأنظمة قمعية قريبة لها طموحات إقليمية خطيرة على لبنان مثل إيران.
هذا كله يتطلب نقاشا جديا ومصارحة لا مساومة فيها: كيف نحتوي سلاح "حزب الله"؟ وكيف نواجه ضغوط إيران وسوريا؟ وكيف يمكن أن نتفادى حربا مدمرة مع إسرائيل قد ترى إيران أنها ـ أي الحرب ـ يمكن أن تخدم مصالحها في المستقبل.
وكيف نتعامل بواقعية مع الضغوط الأميركية والأوروبية السياسية والاقتصادية على إيران ووكلائها في المنطقة مثل "حزب الله" الذي ستواصل واشنطن مقاطعة أركانه في السياسية وقطاع المصارف.
العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة قبل أيام ضد وكلاء وعملاء إيران في العراق من قادة ميليشيات ما يسمى بالحشد الشعبي المسؤولة عن القمع الدموي للمتظاهرين العراقيين المسالمين، وهم زعيم "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي وشقيقه ليث الخزعلي ومدير أمن الحشد الشعبي حسين فالح المعروف باسم أبوزينب اللامي، هي مؤشر لما سيتكرر في المستقبل في العراق كما في لبنان.
التحليل الدقيق للتحديات التي تواجهها الثورة اللبنانية يجيب أن يأخذ بعين الاعتبار دور إيران ومحاولاتها إجهاض وترهيب الثورتين في العراق ولبنان عبر أدوات الجمهورية الإسلامية الكثر في البلدين.
مفارقة
هناك مفارقة لافتة يتسم فيها ائتلاف "حزب الله ـ التيار ـ أمل"، وهي أن قادته: حسن نصرالله، وميشال عون ونبيه بري لم يرثوا زعاماتهم السياسية من آبائهم أو عائلاتهم الإقطاعية والسياسية القديمة، كما هو الحال مع زعامات وعائلات جنبلاط، وفرنجية والجميل، وكرامي وسلام والأسعد وغيرهم. هؤلاء الثلاثة مع غيرهم مثل رفيق الحريري وسمير جعجع، دخلوا التركيبة اللبنانية خلال سنوات الحرب أو بعدها مباشرة. وحده رفيق الحريري لم يكن متورطا في قتل أي لبناني.
المفارقة الأخرى والسافرة أكثر، هي أن القادمين الجدد إلى النظام اللبناني، أي الثالوث غير المقدس: نصرالله وبرّي وعون هم الذين يحتكرون السلطة الحقيقية في لبنان، أكثر من أي ممثلين آخرين عن العائلات التقليدية السياسية.
هذا الإقطاع السياسي ـ الديني الجديد يمثل اليوم الخطر الأكبر الذي يواجه لبنان، والعقبة الكبرى أمام قوى التغيير الديمقراطي، بسبب احتكاره للسلاح، وتاريخه الدموي وارتباطه بالنظامين الإيراني والسوري.
دين ودولة
نقطة أخيرة. "كلن يعني كلن" تشير عادة إلى أركان الطبقة السياسة الفاسدة. ولكن، لكي يكون الشعار شاملا أكثر ويعكس واقع توازن القوى في البلاد، يجب أن يشمل أيضا الطبقة الدينية المرتبطة بشراكة عضوية مع الطبقة السياسية.
أقوى تنظيم سياسي ـ عسكري في لبنان، أي "حزب الله"، يرأسه رجل دين. تساءلت مرة في برنامج حواري تلفزيوني كيف يمكننا أن نتعامل مع زعيم "حزب الله"؟ هل نتعامل معه (أو ننتقده) كرجل دين؟ كزعيم حزب؟ أم كقائد ميليشيا مسلحة؟ وهذه تساؤلات شرعية، لأنه إذا انتقدت السيد حسن نصرالله سياسيا، يدعي أنصاره أنك تطاولت على مقامه الديني.
منذ بداية الحركة الشعبية التغييرية، برز إلى العلن وبشكل سافر أكثر الدور السلبي لرجال الدين في السياسة. تطرقنا أعلاه، وفي مقالات سابقة، إلى الدور الخطير لـ"حزب الله" وقادته من رجال الدين وتهديدهم لآمال وطموحات المتظاهرين السلميين، ودفاعهم المخجل عن نظام سياسي فاسد ومهترئ.
وخلال المشاورات الحكومية تحولت دار الفتوى من مرجعية دينية (سنية) إلى مرجعية سياسية. المرشح لتشكيل الحكومة سمير الخطيب أعلن عن انسحابه من سباق التكليف بعد زيارته لمفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان، الذي أبلغه أن الطائفة السنية تريد ترشيح الرئيس سعد الحريري لتأليف الحكومة الجديدة.
لا يمكن قيام دولة مدنية وديمقراطية وعصرية إذا بقي اللبنانيون مجموعة طوائف خائفة من بعضها وتصر كل منها على حماية ما تعتبره مصالح رعاياها.
أقطاب السنةّ يريدون سعد الحريري رئيسا للوزراء، وأقطاب الشيعة اختاروا نبيه بري رئيسا لمجلس النواب، وأقطاب الموارنة أرادوا ميشال عون رئيسا للجمهورية. ومن غير المستغرب أن يتصرف قادة هذه الطوائف وكأنهم كأمراء.
جميع الطوائف في لبنان تتصرف وكأنها هي المسؤولة الرئيسية عن الأحوال الشخصية لرعاياها وفق أحكامها الدينية التي تعطيها حماية إلهية أهم من حماية الدولة. وهذا ما يفسر استياء البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي من أحكام القضاء المدني في قضية الراهبة رئيسة جمعية "رسالة حياة"، عندما رفضت الإذعان لقرار قضاء الأحداث في لبنان، حين قال إنه "من غير المسموح أن يتعدى القضاء العدلي على صلاحيات القضاء الكنسي الذي تعترف به الدولة اللبنانية".
لن تقوم في لبنان دولة عصرية مدنية وديمقراطية إلا بعد أن يسود فيها حكم القانون المدني، أي القانون الذي يكتبه الإنسان، لحماية الإنسان.
نُشر في شبكة الشرق الأوسط للإرسال