حزب الله.. لبنان والسيادة وصندوق النقد الدّولي
بقلم: منى فياض
يرفض "حزب الله"، حتى الآن، تدخل صندوق النقد الدولي حفاظا على السيادة كما يقول، على الأقل في خطابه العلني. هنا من الضروري الإشارة إلى أن الدول لم تعد تملك سيادتها المطلقة، في عالم جديد أصبحت فيه المنظمات والعمالقة الرقميين أقوى من الدولة الوطنية. إضافة إلى مفهوم "حق التدخّل"، الذي يبيح للمجتمع الدولي انتهاك سيادة دولة ما، لا تحترم حقوق مواطنيها بهدف تقديم المساعدات الإنسانيّة لهم.
نحن أمام تحوّل السيادة كسلطة إلى السيادة كمسؤوليّة؛ أي مسؤولية الدولة في حماية مواطنيها وتأمين رفاهيتهم، ومسؤوليّة المجتمع الدولي في ذلك. وهذا في العصر الرقمي الذي أفقد الحكام السيطرة على المعرفة وتلاعبهم بالعقول. حل القانون والاقتصاد محل السيادة والهوية.
لكن السيادة عند "حزب الله" استنسابية. فوزير الصحة التابع له، وبعد انتقال فيروس كورونا من إيران إلى لبنان، رفض في البداية ثم تلكأ في إيقاف الرحلات من طهران، مرة بذريعة البعد السياسي، ومرة لأنه ينتظر طلب منظمة الصحة العالمية ذلك. هذا يعد تخليا موصوفا عن قرار سيادي من صلاحية الحكومات وحدها. وإذا كانت الحكومة لا تجرؤ على هكذا قرار فعن أي سيادة نتحدث؟
أما رفض صندوق النقد الدولي بذريعة رفض التدويل، فهو أيضا موقف استنسابي ومناسباتي ـ مع الإشارة هنا إلى أن ممثلين عن الحكومة التي تولّى الحزب هندسة تأليفها، التقوا بممثلين عن صندوق النقد، وهو ما يشير إلى ازدواجية في خطاب الحزب، كون الحكومة لا يمكن لها أن تقوم بخطوة كهذه دون موافقة "حزب الله. فبعد أن عارض المحكمة الدولية الخاصة بلبنان نجد أن نصرالله في خطابه الأخير يريد أن يقدم محامون إلى تحضير ملفات قانونية ورفع دعاوى أمام القضاء الدولي "عن مسؤولية أميركا في منطقتنا كي يلاحق ترامب ورامسفيلد وبومبيو واسبر". وهكذا فالتدويل والسيادة عنده انتقائيان يختارهما عندما يتلاءمان مع مصالحه الخاصة.
لكننا الآن أمام عجز مالي deficit بسبب جميع السياسات الماضية التي بددت فيها الدولة 250 مليار دولار وراكمت دينا عاما يصل إلى ـ وربما يتجاوز ـ 100 مليار دولار.
هذا الواقع يفرض علينا مواجهة الأسئلة التالية:
ـ هل بإمكاننا السيطرة على الوضع الذي وصلنا اليه اعتمادا على مواردنا الخاصة دون مساعدة خارجية يقدرها البعض ما بين 20 ـ 25 مليار دولار؟
إن خروج لبنان عن إطار الشرعية الدولية يهدد بقاؤه كبلد. فلبنان كدولة صغيرة محاطة بدول إما عدوة أو غير صديقة، وفي زمن لم تعد تنطبق فيه تنبؤات ألكسيس دو توكفيل في أن مصير الأمم الصغيرة الالتحاق بأمم أكبر منها، لأن الأمم الصغيرة تكون قادرة على البقاء إذا ما توفرت لها الحماية اللازمة من النظام الدولي.
لذا من مصلحة لبنان العليا هي البقاء في إطار الشرعية الدولية، لكن ذلك بالطبع يتناقض مع مصلحة "حزب الله" الكامنة في الخروج عليها والالتحاق بمحور "المقاومة والممانعة".
من هنا نفهم أن التهويل على الرأي العام اللبناني من فقدان السيادة جراء اللجوء إلى صندوق النقد، هدفه الوقوف في وجه استعادة الدولة لحقوقها الشرعية ولسيادتها الكاملة. هذا في الوقت الذي يتهكم فيه على اللبنانيين: ابنوا دولتكم قبل أن تطالبوا بوضع سلاحي بإمرة الشرعية.
بالمقابل، ماذا يعرض علينا "حزب الله"؟ عدا عن الاقتصاد المقاوم الذي، كما تفهمه إيران، والاعتماد على الصيام؟
يعرض سياسة التمدد الإقليمي و"المقاومة" لتحرير مزارع شبعا وصولا إلى القدس. الأمر المستبعد الآن بحسب تصريح الجنرال الإيراني حسين سلامي. إذن هو يعرض "ستاتيكو" أي تجميد الوضع بانتظار الانتخابات الأميركية "لنبني على الشيء مقتضاه" على ما يرددون. فالحزب يعتبر أن ما يعيشه لبنان هو مؤامرة سياسية وليس أزمة اقتصادية ومالية فقط، تدفع به نحو مسار معين يسمح بالتدويل لتحد من نفوذه.
لكن المتضرر الأكبر سيكون "حزب الله"، لأنه تحت شعار "المقاومة" سيطر على المعابر البرية والبحرية والجوية، وضبطها سيفقده القدرة على التهريب العسكري والتجاري مما يحول دون استكمال مشروعه العسكري في لبنان وسوريا والعراق واليمن وغيرها من الدول التي يتدخل فيها. وهذا سيحاصره ويجفف مصادر تمويله وعائداته التي يوظفها لتشغيل ماكينته الإدارية والإعلامية والعسكرية.
لذا تشكل دعوة "حزب الله" اللبنانيين لمواجهة أميركا ومقاطعة بضائعها تناقضا سافرا مع طبيعة الاقتصاد اللبناني وبالتالي نمط عيش الأكثرية الساحقة من اللبنانيين. إضافة الى التوجه السياسي التقليدي للبنان المحايد والمنفتح على المحيطين العربي والغربي.
وعليه فإنّ هذا التناقض هو تناقض سياسي مصيري وأساسي يتشابك مع الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة، بحيث يصعب تصور حلّ جذري لهذه الأزمة خارج معالجة هذا التناقض. لذا لا يمكن للمعالجة أن تكون تقنية بحتة، طالما المشكلة الأساسية هي استعصاء المواءمة بين النموذج السياسي ـ الاقتصادي التاريخي في لبنان وبين التموضع السياسي للبنان في خريطة الصراعات الإقليمية والدولية في ظلّ سيطرة "حزب الله" على الفضاء السياسي والأمني والاقتصادي في البلد.
يصبح السؤال هنا: أي هوية نريد للبنان؟ ماذا نريد لاقتصاده؟ وفي ظل إغلاق أكثر من 800 مؤسسة خاصة أبوابها حتى الآن، يزداد اعتماد الاقتصاد على القطاع العام. فيزداد تفاقم المشكلة ما يحولنا إلى اقتصاد ريعي (قطاع حكومي متضخم) معادٍ للقطاع الخاص.
إذا اقتنع "حزب الله" بضرورة القيام بشيء ما لا يناسب إيران، هل سيتمكن من اتخاذ قرار لبناني مستقل؟ ألم تعلمنا زيارة لاريجاني أن إيران غير معنية بمصلحة لبنان ولا بإرادة نصرالله في لملمة الوضع. ألم تلغ الزيارة مضمون خطاب نصرالله الذي نفى فيه سيطرة حزبه على قرار حكومة لبنان ورغبته بعدم معاداة العرب؟