حزب الله والحريري: علامات الساعة!

حزب الله يفقد توازنه، ولم يبق بيده إلا إطلاق اليد للبلطجة، علّ السوقية تردع من لم يردعهم تلويح نصرالله المكرر والممل بفائض القوة الأسطوري.

تجاوزت الانتفاضة الشعبية في لبنان قدرة حزب الله على إدارة الأزمة. تحول الحزب إلى الارتجال المرتبك الذي يكشف ضيق الخيارات ووهن ترف المناورة لديه. بدا الحزب مضطرا لإرهاب المعترضين داخل بيئته (قبل البيئات الأخرى)، بعد أن كان يتفاخر بالتعفف عن ذلك، تاركا للأصوات "المشبوهة" حرية القول. بات واضحا أن حزب الله يفقد توازنه، ولم يبق بيده إلا إطلاق اليد للبلطجة، علّ السوقية تردع من لم يردعهم تلويح أمين عام الحزب المكرر والممل بفائض القوة الأسطوري الذي يرعب دولة كإسرائيل.

يطيل السيد حسن نصرالله كثيرا في سرد مواقف سبق أن عبر عنها مطولا قبل ذلك. يفرغ زاد الرجل من سلع خلاقة، فيعيد تسويق منتجات تقادمت ما زالت تجد لها سوقا لدى "جمهور المقاومة".

السيد كان ضد استقالة الحكومة لكن الحكومة استقالت. السيد يريد بقاء التيار الوطني الحر داخل الحكومة المقبلة، وهذا أمر منطقي دفاعا عن حليفه المسيحي، لكن رئيس التيار جبران باسيل قرر غير ذلك. والسيد يرى أن "مصلحة الوطن" تحتاج إلى مشاركة الحزب وبقية التيارات السياسية داخل "حكومة وحدة وطنية"، أي على شاكلة تلك التي استقالت واعتبرت من أفشل التجارب الحكومية في تاريخ البلد، وهذا أمر يرفضه رئيس الحكومة المستقيل، المرشح لخلافة نفسه، سعد الحريري.

يكشف لنا السيد أن حزبه وحركة أمل شكلا لجانا لضبط المناصرين، وأن همّة المناصرين ضد ثورة الناس ليست قرار تلك الثنائية الشهيرة. بيد أن السؤال الكبير: لماذا هؤلاء المناصرين أساساً مستفزون؟ ما الذي يضيرهم من حراك مواطنيهم في الاعتراض على الفساد ورفض العفن الذي أصاب كافة مفاصل الدولة اللبنانية؟ ولماذا هم غاضبون ممن يطالب بفرص العمل والكهرباء وحل أزمة النفايات وتجنب غرق البلاد في موسم الأمطار؟ وأي كره يكنه المناصرون لعلم البلاد ومشاهد الفرح التي عبر عنها اللبنانيون داخل المدن والنواحي من شمال لبنان إلى جنوبه؟ ثم لماذا مقت تلك الإرادة الواحدة التي خرجت من طرابلس إلى صور والنبطية مرورا بجونية وجل الديب وبيروت وبعلبك والهرمل؟ والسؤال مرة أخرى: لماذا يتعكر مزاج المناصرين فينطلقون "عفويا" بلباس "عفوي" أسود يهاجمون حراك الناس في منطقة بعينها في ساعة بعينها؟

لن ننتظر الإجابة. وهي إن أتت فستكون من تلك المطولات المملة التي لا تقنع عاقلاً. لن ننتظر الإجابة، ذلك أن السيد وحزبه لا يهمهم الرأي العام ولا ما يراه اللبنانيون لوطنهم. السيد يوالي، جهاراً، وبكل فخر، إيران ووليها الفقيه. وهو، وإن توقف عن الدعوة لإنشاء جمهورية إسلامية في لبنان تكون تابعة للجمهورية الإسلامية وفق تعبيراته السابقة، فإنه، حتى لو ارتكب "فاحشة" وضع العلم اللبناني خلف إطلالاته، يعتبر البلد ورقة إيرانية من غير المسموح التفريط بها مجاناً كرمى لعين لبنانيين يقترفون بسذاجة المطالبة بوطن متطهر من السرقة والفساد والهدر والتسيب وحكم المافيات.

لم يستسغ حزب الله تمرد سعد الحريري على إنذار أمينه العام بمحاكمة من يفكر في الاستقالة من الحكومة. استقال الحريري مع ذلك، ضاربا عرض الحائط بتهديدات السيد وأحكامه. كان يفترض، احتراما لتلك التهديدات، أن يذهب حزب الله، الذي يمتلك الأغلبية البرلمانية مع حلفائه، إلى تسمية شخصية سنية حليفة (وما أكثرهم داخل اللقاء التشاوري) لتأليف حكومة "وطنية" خالية من أي حواضن للعمالة ومن أي تابعين للسفارات. لكن السيد يبلغنا أن الحزب زاهد في ذلك من أجل "مصلحة الوطن".

بات سعد الحريري الذي تمرد على إرادة السيد مرشح السيد الأول. قال زعيم حركة أمل نبيه بري إنه قدم "لبن العصفور" لإقناع ذلك المتمرد بالعودة لترؤس الحكومة العتيدة. بات زعيم تيار المستقبل أهم بالنسبة للحزب من زعيم التيار الوطني الحر. وصلت أزمة الحزب، بعد أن سقط "نصره" في سوريا وسقط فائض سلاحه، إلى تعجيل إسقاط "ورقة التفاهم" مع ميشال عون وتياره، وهي التي وفرت لحزب الله غطاء مسيحياً ومشروعية لبنانية أمام الدائرتين العربية والدولية.

يرى نصرالله أن مصلحة البلد تحتاج إلى حكومة يشارك فيها الجميع. هذه هي ديباجة توق حزب الله ليكون داخل الحكومة العتيدة. بالمقابل يرى الحريري أن مصلحة البلد تحتاج إلى حكومة خبراء واختصاصيين مستقلين لا هيمنة للساسة على قرارهم. يطل باسيل، المسيحي، شاهرا سلاح الميثاقية. يرد زعيم "القوات اللبنانية" سمير جعجع، المسيحي، بأن إنقاذ البلاد يحتاج إلى مخلوقات من خارج الكوكب ولا مكان في هذه الكارثة للميثاقية. يرد السيد وربعه: شيعة شيعة شيعة.

الثنائية الشيعية تطلق قمصانها السود دون خجل من أجل تأكيد القدرة الرائعة على التخريب. هي مواهب لا مناص من الاعتراف بها. وهي المواهب نفسها التي احتلت الوسط التجاري وأقفلت مجلس النواب وخاضت غزوة 7 أيار قبل ذلك. قيض لهذه المواهب أن تنجح في حكم البلد، في فرض اتفاق الدوحة، في الانقلاب على الحريري عام 2011 وإبعاده عن البلاد، دون أن ننسى ما أنجزته تلك المواهب قبل ذلك في سلسلة تفجيرات اغتالت رفيق الحريري وشخصيات سياسية تخاصم الحزب ومواهبه. وها هي المواهب نفسها تتحرى تذكير الحريري بأن حكومته المدنية ليست حلالا ودونها كثير من المحرمات.

ينطلق حزب الله -داخل مشهد ينحشر بين مواقف السيد وحركة أنصاره- من مسلمة يستنتجها بسهولة. العالم يهتم لشأن لبنان، وبالتالي فإن إظهار المواهب من شأنها لفت نظر هذا العالم إلى قدرة الحزب على تعطيل واجهات الإنقاذ التي ترفعها العواصم. الدول الداعمة للبنان قالت في باريس قولتها. وسّعت واشنطن مروحة من تستهدفهم عقوباتها لتطال شخصية قريبة من باسيل. وترسل إلى بيروت موفدها ديفيد هيل الذي كان سفيرا لبلاده في لبنان. صندوق النقد والبنك الدوليان يتحركان باتجاه البلد، فيما أن التموضع حول ما يحاك لسوريا وما يرسم ضمن خرائط غاز شرق المتوسط، يحتاج إلى ترتيب الوضع في لبنان.

يبدو حزب الله يتيما متروكاً لمصيره. مرجعيته الإيرانية متصدعة بعد أن نالت التحركات الشعبية داخل إيران من مناعة البلد وتوازن نخبته الحاكمة في طهران. باتت منابر السياسة والحرس الثوري تعترف بذلك، وبات العقل الاستراتيجي الإيراني عاجزا عن مقاربة أصعب الأزمات التي شهدتها الجمهورية الإسلامية، وفق اعتراف زعماء الحكم في دولة الولي الفقيه. يستنتج حزب الله أنه لم يعد داخل لوحة إدارة مسار ومصير سوريا، وأنه يفقد بعد انفجار البركان في العراق عمقاً سياسيا ومذهبيا وغطاء استراتيجيا من حيث كونه عمادا من أعمدة الهلال الشيعي في المنطقة.

وحين لا يجد حزب الله في لبنان إلا الحريري، حليف الغرب والسعودية، لتشكيل الحكومة، فتلك من علامات الساعة. ومن علامات الساعة أيضا أنه يتحمل تدلل الرجل وربما تلبية شروطه.