حزب الله يغازل ترامب بلغة المصالح: من 'الشيطان الأكبر' إلى 'فرص الاستثمار'
بيروت - في تحوّل لافت في الخطاب السياسي، خرج نائب الأمين العام لحزب الله اللبناني، الشيخ نعيم قاسم، بتصريح يحمل لغة غير معتادة من الحزب تجاه الإدارة الأميركية. ففي كلمة ألقاها بمناسبة عيد المقاومة والتحرير، توجّه قاسم إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنصيحة تنطوي على قراءة براغماتية للمشهد الإقليمي، محذّراً إياه من الاستمرار في الارتهان لإسرائيل، ومعتبراً أن فك الارتباط مع تل أبيب قد يكون مفتاحاً لفرص اقتصادية وتجارية واعدة في الشرق الأوسط.
ويعكس هذا الخطاب، الذي يأتي في سياق تصاعد التوتر بين حزب الله وإسرائيل، يقدّم نفسه بوجه جديد أكثر دبلوماسية، إدراكاً متزايداً لدى قيادة الحزب بمتغيرات المشهدين الإقليمي والدولي. فرغم ما يتعرض له الحزب من ضغوط شديدة بفعل الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، والتي أضعفت حضوره العسكري وأثرت على بيئته السياسية والشعبية، إلا أن رسالته هذه المرة اختارت سبيلاً جديداً: مخاطبة العقل التجاري للرئيس الأميركي، والرهان على خلافاته الشخصية والسياسية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
ففيما لم تخرج لهجة حزب الله على مدى عقود عن سياق العداء المباشر للولايات المتحدة، باعتبارها "الشيطان الأكبر" وحليفة إسرائيل الاستراتيجية، تبدو تصريحات قاسم الأخيرة كنوع من التكتيك السياسي الموجّه. إذ قال في كلمته "ننصح الرئيس ترامب أنه أمام فرصة التحرر من إسرائيل، فهذا سيمنحه مجالا أوسع للاستثمار في المنطقة ". وأضاف أن الاستمرار بالعدوان الإسرائيلي لا يخدم الاستقرار الإقليمي، وهو ما ينعكس سلباً على المصالح الأميركية، مشدداً على أن "إسرائيل تستغل هذا الدعم لتحقيق مصالحها فقط".
ولا يبدو هذا الخطاب الجديد منعزلاً عن الواقع السياسي المعقّد الذي يمر به حزب الله اليوم. فالحرب الأخيرة مع إسرائيل، التي طالت البنى التحتية في الجنوب اللبناني وأدت إلى خسائر بشرية ومادية فادحة، دفعت الحزب إلى إعادة تقييم أدواته الخطابية، خصوصاً أمام عجز الدولة اللبنانية عن لجم الخروقات الإسرائيلية المتكررة لاتفاق وقف إطلاق النار، والتي أشار قاسم إلى أن عددها بلغ 3300 خرق منذ بداية الاتفاق.
التوقيت الذي اختاره قاسم لإطلاق تصريحه ليس عفوياً، بل يأتي في ظل توتر متزايد بين ترامب ونتنياهو، بحسب ما كشفت عنه صحيفة "بوليتيكو" الأميركية، والتي نقلت عن خمسة مسؤولين أميركيين حاليين وسابقين أن العلاقة بين الرجلين تدهورت مؤخراً بسبب تباين مواقفهما من ملفات الشرق الأوسط.
وبينما لا تزال إدارة ترامب السابقة تحتفظ بعلاقات وثيقة مع بعض الفاعلين في المنطقة، فإن القلق يتزايد داخل أوساطها من الكلفة السياسية والاقتصادية المتصاعدة للدعم المطلق لإسرائيل. وهو ما فتح الباب أمام حزب الله لاستغلال هذه التباينات، وتقديم نفسه – ولو بشكل ضمني – كقوة سياسية يمكن التفاهم معها على أساس "المصالح المشتركة" وليس "المواجهة الدائمة".
ورغم بقاء الخطاب الأيديولوجي لحزب الله حاضراً في تصريحات قاسم، خصوصاً عندما تحدث عن اليمن وغزة و"الكرامة العربية"، إلا أن جوهر رسالته للولايات المتحدة يبتعد عن منطق التهديد المعتاد، ويقترب أكثر من منطق التحذير المبني على قراءة مصالح.
ويعتقد أن حزب الله، وهو يدرك عمق التحولات في المزاج الأميركي حيال قضايا الشرق الأوسط، لم يعد يرى في المواجهة المفتوحة مع واشنطن خياراً فعالاً، لا سيما بعد أن باتت الضغوط الداخلية والخارجية تفوق قدرته على تحمل تبعاتها. ولذلك، فإن توجيه الخطاب نحو ترامب تحديداً، بصفته رجل أعمال قبل أن يكون رجل سياسة، يحمل في طياته محاولة لفتح باب الحوار من زاوية الاستثمار والربح – وهي لغة يفهمها ترامب جيداً.
وفي موقف يعكس استمرار التنسيق بين الحزب والدولة اللبنانية، أكد قاسم أن "الدولة هي المسؤولة" عن الرد على الاعتداءات الإسرائيلية، داعياً إلى موقف أكثر جرأة في مجلس الأمن وفي الأطر الدولية. لكنه في الوقت نفسه، وجّه رسالة تحذيرية، قائلاً إن المقاومة لا تستسلم، وإن "الخيارات الأخرى موجودة"، في إشارة إلى إمكانية العودة إلى العمل العسكري في حال استمر التصعيد.
في المجمل، تمثل تصريحات قاسم محاولة لتموضع جديد لحزب الله في لحظة حرجة إقليمياً ومحلياً. خطاب يتراوح بين الواقعية السياسية والرسائل التحذيرية، وبين مغازلة ترامب والتصعيد الرمزي ضد إسرائيل، في محاولة لجعل الحزب طرفاً فاعلاً لا فقط على أرض المعركة، بل أيضاً في ميدان السياسة الإقليمية.
ويتضح أن حزب الله، رغم الضغوط، لا يزال يمتلك قدرة على المناورة، ويبحث الآن عن طرق جديدة لحماية مصالحه، حتى لو تطلّب ذلك التخلي عن "لغة المقاومة" لصالح "لغة المصالح".