حفريات كيليطو تقتحم اللغة اليونانية

عبدالفتاح كيليطو حظي بتقدير كبير في العالم العربي حيث أسهم في تعبيد العديد من المسالك الجديدة في قراءة التراث الكلاسيكي.
"أركيولوجا" كتيب أكثر من كونه كتابا يتألف من اثني عشر نصا موجزا جدا التي تشكل جنسا متفردا
الشذرة هي كتابة موجزة وتامة

عبدالفتاح كيليطو كاتب وباحث مغربي يكتب باللغتين العربية والفرنسية. ترجمت عديد من أعماله إلى الإنجليزية والإيطالية والإسبانية. كما ترجمت جل أعماله العربية إلى الفرنسية. وهناك مشروع قادم مستقبلا لترجمتها إلى اللغة التركية. غير أن بعض كتبه وخاصةً "أركولوجيا: اثنتا عشرة شذرة Archéologie : douze miniatures" الذي تردد صداه مؤخرا باللغة اليونانية: يشكل عملا فكريا وهمزة وصل بين الشرق والغرب. في هذه المقالة تشرح مترجمة هذا الكتاب إيفانجيليا ستيد كيف وجد عبدالفتاح كيليطو في اللغة اليونانية سياقًا ملائما لاستضافته والترحيب به.
حظي كيليطو بتقدير كبير في العالم العربي حيث أسهم في تعبيد العديد من المسالك الجديدة في قراءة التراث الكلاسيكي منذ كتابه Les Séances الصادر في أوائل الثمانينيات ثم بعد ذلك كتابه "ألف ليلة وليلة أو العرب وفن السرد" ورغم ذلك فكيليطو عرف عنه أكثر تدريسه في الجامعات المغربية للرواية الفرنسية، بينما ألقى أيضا العديد من الندوات والمحاضرات حول الأدب العربي في جامعات هارفارد وبرينستون وكوليج دي فرنسا. كما طرح أسئلة عدة حول مسألة اللغات في كتابه "لسان آدم" تحدث فيه عن جميع اللغات لكن باللغة العربية.
"أركيولوجيا: اثنتا عشرة شذرة" هو من دون شك أشهر كتب عبد الفتاح كيليطو القصار الحجم. لذلك يعتبر هذا الكتاب رمزا متفردا في كتابات هذا الرجل العالم والأديب، الذي يقرأ ويفكر مبتسما دائما أكثر مما يتحدث ويكتب دون تحفظ. 
ظهر كتاب "أركيولوجا" في بروكسل عام 2012 بمناسبة الاحتفاء بالآداب المغربية. إنه كتيب أكثر من كونه كتابا يتألف من اثني عشر نصا موجزا جدا التي تشكل جنسا متفردا. لم يكن هذا الكتاب معروفًا لدى قراء كيليطو العاديين وبالتالي فإنه قدمه إلى جمهور جديد لأن ترجمته إلى اليونانية ظهرت للتو في أثينا عن دار النشر أنتيبود. ومن المرتقب أن تخصص له متابعة نقدية فضلا عن ترجمة كتاب "صراع الصور" حيث يجد كل من هذين الكتابين الفرنسيين ما يعادلهما في كلمة يونانية واحدة ذات صدى وشحنة تاريخية هي Archeoloyía أي "حفريات" التي تشير إلى الطبقات الدفينة والمتراكمة في أرض شهدت حضارات تعاقبت عليها منذ زمن بعيد (صراع الصور) إلى الصراعات البيزنطية الشهيرة حول الأيقونات التي تمتد في "صراع الصور" من خلال أسئلة مماثلة في العالم العربي.

سنلاحق ذهابا وإيابا خطيئة آدم الأولى من خلال القراءة الدائمة لآثام البشر. وربما مع كيليطو كمرافق ودليل لنا سنعثر على مكان اعتقدنا أننا نعرفه، لكنه يحتفظ لنا بالعديد من المفاجآت 

دعونا نتوقف عند كتاب "أركيولوجيا"؛ إن نصوصه القصيرة لا تشير إلى لحظات يومية. وهي ليست انطباعات عابرة أو تجارب شخصية، ولكنها صفحات معقدة ومهيكلة تحدد لها نقطة البداية والاستلهام من الميثولوجيا بجميع أشكالها. يعود المؤلف بنا إلى الأساطير اليونانية فيقرأ الإنجيل والأسفار المقدسة والقرآن. إنه يقارب النصوص العربية في العصور الوسطى، اليوميات والسجلات المقدسة. يفكر في الماضي ويتأمل مستقبل الشعر العربي. يعود إلى الأدب الأوروبي أو الأميركي بطريقة غير متوقعة؛ يشير إلى التحليل النفسي؛ دون أن ينسى واحدة من ألذ قراءاته "مغامرات تان تان". ومن خلال تسليطنا الضوء على مقتطفات منه، فالكتاب يجمع بين تلميحات وينسج أفكارا، يستحضرها، يستنطق الألغاز. تصبح الأسطورة وسيلة لوضع قناع من أقنعة الكاتب العديدة من خلال الاعتماد على مصادر مختلفة: روايات، قصائد، تعليقات هامشية، حكايات، أمثال، سجلات، كتابات الرحلة، وحتى الرسائل. هدف المؤلف هو الترحال بالقارئ في مغامرة اقتناص المعنى حيث تصبح النكهة الغربية معرفة، والمعرفة محفزا، وشهية تقودنا نحو مسعى جديد.
الشذرة هي كتابة موجزة وتامة. الأسطورة أولاً حقيقة يمكن التعرف عليها فورا (تفاحة آدم، تقطيع أوزوريس، صخرة سيزيف، سجل الأعمال الصالحة والسيئة، المتاهة ..إلخ). هو إذن مقتطف من نص معروف أو مجهول، اكتشفه المؤلف في قراءاته أو صادفه عشوائيًا في حفرياته. إنه كذلك بمثابة طرفة قد نقول إنها بسيطة، تقليد شفاهي تمت كتابته لاحقًا، مفارقة، بل جملة تحولت إلى مثل استخرجه الكاتب من حفرياته مثل قطعة من الفخار أو قطعة من الذهب (مثل النبش في الحفريات) يعيد بناءها وإحياءها وتشكيلها بعد ذلك يقدمها لقارئه ومتلقيه. لقد اكتسبت قطعة الفخار هاته رائحة، نسيجا، نبضا، جوهرا. أخيرا لقد أصبحت متعة.
كيفما كان مصدرها فإنها دائما تعمل على تقنية التكثيف في سطور قليلة. قصص قصيرة مختصرة تذكرنا بحكايات روبرت لويس ستيفنسون وهو كتاب مؤلف من حكايات قصيرة، أو بالأحرى من أنوية قصصية. لكن ستيفنسون يفضل الأساطير ذات الأهمية والقصص الأخلاقية أو العجائبية وكذلك القصص القائمة على ثيمتي الموت والزمن. في المقابل، يتم تعريف شذرة كيليطو باعتبارها لحظة متفردة تولدت من قراءات عديدة. غالبًا ما تتلاءم مع الصور المكثفة (ليس من المصادفة أن تعنون الشذرة الأولى بـ "تشكيل" حتى عندما يكون الفكر عابرا . يطلق كيليطو على شذراته "نصوصا مستلهمة، دون أن يشير المفهوم إلى قيمتها" بمعنى أن المشهد والشخصية والكتاب تفرض نفسها على المؤلف بقوة الهوس والسحر الذي يخضب كتابته ويكتشف عمله، لم يعد يتركه في طمأنينة. بعض هذه الأفكار مقتضبة ومكثفة جدا، لدرجة أنها تشبه إلى حد كبير مشروع تحرير(على طريقة حكايات ستيفنسون) مع كونها حافزًا قويًا لتحريض الفكر أو المتخيل.
انطلاقا من هذه النواة، ينشئ عبدالفتاح كيليطو أسطورته المتميزة. يكشف عن ثنايا التاريخ تارة بالمقارعة وتارة بالتفسير وأحيانا من خلال تحويره بغية منحه نهاية غير متوقعة. تسمح له الإحالات المتوالية باستحضار ثيمات مشتركة ورسم أوجه تشابه موحية. فهو يعتمد على التقاليد العربية واليونانية والغربية من خلال الإشارة إلى العلاقة الوثيقة بين تلك القصص. يسجل المفارقات والدعابات على نفس اللوحة المشتركة من خلال فك لغز اللعبة الروحانية أو الإنسانية دون الكشف عنها. وهو بذلك يفتح الباب أمام الحبكة ثم يتركه مواربا. وعلى الرغم من أن شذراته هي جزء لا يتجزأ من كتاباته الإبداعية، إلا أنها لا تنتمي إليه بشكل حصري. إنها تعكس العديد من الأعمال والكتب وتدعو القارئ إلى الدخول بدوره إلى الشذرة، متذكرا قراءاته الخاصة، للمساهمة ببعض التفاصيل الجديدة وفق شرط واحد، هو إتقان العلاقة وتذوق اللغة.
أساس الشذرة هو التعليقة والحاشية التفسيرية أو النقدية. توضح الشذرة في نص "وزن الشعراء" كيف يكون للتعليق بعد سينوغرافي: فهو يمنح فرصة لمناقشة الأشطر حول الموضوع الساخر عن الهزال أو البدانة والإلهام الإبداعي، وبالتالي أسلوبا غنيا في التعبيرات العالمة على الرغم من كونه يفتقر إلى الطموح. ثم يذكرنا كيليطو بالأساطير المجهولة والمعلقين الذين طرزوا على هامش الإلياذة والأوديسة والتحولات والعديد من النصوص الأخرى ومجموعة من الإصدارات المتناقضة، والمتغيرات والتفسيرات بفضل التعليقة. 
إنه يزرع الشذرة عبر إثرائها بالتقاليد العالمة، لكنه غالبًا ما ينزلق فيها متظاهرًا بأن أي شيء يتم من ذاته تقريبًا، مزحة ساخرة. وراء أسلوبه القوي، يكمن الضحك، تمامًا كما يحدث في الفصل الدراسي، في وقت يتسم بتفسير رائع وغير متوقع لقصيدة بالمعنى المدثر والغامض حيث ينغمس الطالب في نكتة غير متوقعة. وبالتالي يرى المؤلف أن عمله مجرد لعبة: إنه قارئ وكاتب، وهو ناسخ كذلك ومحب دائم للأدب ولاعب بالكلمات والعبارات الموروثة، مثلما يلعب النرد، أو الروليت، أو أوراق القمار.

Translation
نفتقد أنفسنا في ذروة جنون القراءة

تشكل شذرات "أركيولوجيا"" مكتبة حقيقية حيث يشكل النص الأخير فيها نظرة عامة. يجيب فيها كيليطو عن الكابوس البورخيسي لمكتبة بابل من خلال رموز "اثنتي عشرة شذرة" وبسيناريوهات بديلة ذات دعابة غامضة. غالبًا ما يطفو موضوع المكتبة في كتاباته. 
في مجموعته "حصان نيتشه" الصادرة سنة 2007 تعتبر المكتبة بلاد العجائب (تسمى المكتبة أليس). لكنها أيضًا تدعو القارئ للتخلي عن الحياة اليومية، مثل البهلوان الذي يعيش مدى الحياة بين رفوف الكتب لكن بشكل مقلوب رأسًا على عقب. الرأس في الأسفل والأرجل في الهواء. بالمقابل في النص الأخير لـ "أركيولوجيا" المعنون بـ "رسالة المغفرة" المستوحى من "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري (979-1058) تمثل المكتبة فضاء لكوابيس مثل ولادة غداة ممات حيث نفتقد أنفسنا في ذروة جنون القراءة. تعكس "رسالة الغفران" مكتبة الماوراء حيث البطل هو القارئ مدى الحياة، والمضيف المسكون بغرف القراءة، وربما المؤلف نفسه وأولئك الذين يشبهونه.
تحتوي الطبعة اليونانية لـ"أركيولوجيا" على نص غير منشور للكاتب كيليطو بعنوان "التقوى Piété "الذي قدم في خاتمة الكتاب. في هذا النص، تمثل شساعة السماء اللانهائية التي زعزعت الطفل بعمق في ما بعد ظهيرة شهر رمضان تمثل الأفق الذي يصعب الوصول إليه للعمل الأدبي المتخيل. مثل البحار التي لا أعماق لها في "السندباد" والتي تشكل هدف الكاتب. يطوف بنا كيليطو في مناظره الطبيعية من خلال تسجيل الإصدارات، مع مراعاة التفاصيل التي تكشف عن نفسها له بشكل غير متوقع، مثل السنونو بالنسبة للطفل الصغير. إنه يحب الحدائق والأبهاء البعيدة، الأماكن التي تذكره بالطرافات. تشبه الشذرات التي فرضت نفسها عليه الأماكن الخاصة، وتحفزه على اكتشافها وتأملها، على عكس الأمكنة الفسيحة والشوارع الشاسعة، المماثلة للرواية.
بدون احتوائها على فاعلين محددين بل وحتى عندما يكون لديها أبطال معينون فإن هذه الشذرات تظل محاطة بالغموض. والقارئ يحاول عبثا توضيحها وشرحها. فالمنطق المشترك معكوس. يظهر اللغز في مكانها ويسود الصمت. والمتاهة أقوى من الموت نفسه، ولا يتجرأ "ثاناتوس" على الاختراق أو التجوال هناك. هل هناك إذن أماكن تحبس حتى الآلهة؟ أليس هذا فقط هو السبب في عودتنا إلى الأساطير. إننا لا نبحث في اثنتي عشرة حكاية من أركيولوجيا عن التقدم والتطور. سنلاحق ذهابا وإيابا خطيئة آدم الأولى من خلال القراءة الدائمة لآثام البشر. وربما مع كيليطو كمرافق ودليل لنا سنعثر على مكان اعتقدنا أننا نعرفه، لكنه يحتفظ لنا بالعديد من المفاجآت .