حمزة قريرة يحلل بنية الفضاء الروائي الجزائري

الباحث الجزائري يكْشف النقاب عن دور ومركزيّة الفضاء الروائي أمام بقية المكونات.
محاولات تجريبية في خلق تشكيلات خاصة بالمكونات السردية
أشكال الفضاء الروائي تتنوع من الجغرافي/المكاني إلى النصي، والدلالي

يمثّل الفضاء الاتساع، وهو الحاضن للوجود أيا كانت طبيعته، ومن خلال أهميّته في حياتنا نجده يحتل مكانة مركزية في السيطرة والتوجيه لكل ما يحتويه من عناصر، وفي عالم السرد يتربّع الفضاء على عرش المكوّنات السردية، خصوصا في الرواية التي يعد قوامها فضاء تدور فيه أحداث وتتفاعل من خلاله الشخصيات، بهذا فموقعه مركزي بالنسبة إلى بقية المكونات السردية. 
انطلاقا من هذه الرؤية والأهمية البنائية البالغة جاء كتاب الروائي والناقد د.حمزة قريرة "مركزيّة الفضاء في الخطاب الروائي الجزائري.. دراسة تطبيقية في بنية الفضاء الروائي ومركزيّته من خلال عينات روائية جزائرية" ليكْشف النقاب عن دور ومركزيّة الفضاء الروائي أمام بقية المكونات.
انطلق قريرة في دراسته الصادرة عن دار خيال من تتبّع نظري لمفهوم الفضاء الروائي، كما بسط القول في الرواية بوصفها خطابا موجّها، وحاملة رسالة محددة، ثم بيّن أهمية الفضاء في حدود الخطاب الروائي وكيف يحتل موقعا مركزيا بين بقية المكونات، حيث يتموقع بشكل محوري في الحدث كما يوجّه بسلْطته كل المكونات السردية، بداية بالزمن الذي يعْبره وصولا إلى الشخصيات التي يطبعها بطابعه مرورا بالراوي الذي يمارس دوره في كنف الفضاء وتحت سمائه.
ومن أجل التدليل على دور الفضاء ومركزيّته جاءت فصول الدراسة التطبيقية، التي احتلت أغلب صفحات الدراسة، حيث ركّزت على روايات جزائرية من مراحل مختلفة في السرد الجزائري الحديث والمعاصر، فانطلقت "من الارهاصات الأولى للسرد الجزائري الحديث مع بعض القصص بداية القرن العشرين، ورصدت من خلالها بساطة الفضاء وتأطير الحدث، حيث جاء وظيفيا أكثر منه فنيا، وفي الفصل الثاني تناولت عينة من روايات فترة السبعينيات، فكانت رواية الزلزال للطاهر وطار، حيث سيطر الفضاء وأظهرتْ سلطة المسافة دورها، أمام وطأة المضمون الأيديولوجي، وفي الفصل الثالث تحوّل الفضاء إلى لعنة مع رواية "الجازية والدراويش" لعبدالحميد بن هدوقة، حيث يبرز الجدل بين الفضاء وعناصر السرد والحدث في هذه الرواية التي قدّمت الرمز بشكل كثيف وطرحت القضايا بفنيّة أكبر، لتعبّر عن التطور المهم الذي عرفه السرد الجزائري فترة الثمانينيات في أولى المحاولات نحو أفق التجريب والاختلاف، بدرجات متفاوتة بين الروائيين". 

رواية "حادي التيوس" تصير مرحلة مهمة من تاريخ الجزائر المعاصر، وهي مرحلة التسعينيات التي اختلط فيها كل شيء، من الإرهاب إلى التحوّل الاجتماعي، إلى تفاقم الهجرة وغيرها من القضايا التي مسّت المجتمع الجزائري

وواصل قريرة في الفصل الرابع تحليله لمرحلة متطوّرة من السرد الجزائري حيث أوضح "أصبح للفضاء ذاكرة تنبعث منها الحكاية ويصاغ على أعتابها السرد بلغة متجاوزة تلامس في أسلوبها لغة الشعر، وتجعل الفضاء يغرق في متاهات الشخوص، إنها ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي حيث يصعب الفصل بين الشعر والسرد عندما تشتبك خيوط الحكاية في ذاكرة الفضاء، لتأتي الرواية بفضائها معبّرة عن مرحلة مختلفة من التجريب السردي أصبحت فيه اللغة سيدة المقام".
وتطرق في الفصل الخامس إلى خطاب روائي من نوع مختلف حد التطرّف الموضوعاتي، حيث قال "سيطر الجسد على تفاصيل الحكاية وأصبح بفتنته المحرّك لفصولها، فبرز الفضاء في خضم ذلك وتصدّر المشهد معبرا عن الجسد وفتنته في رواية "حادي التيوس" لأمين الزاوي، فوقّع الفضاء بقوة وقام بجلد الواقع المحزن لما آل إليه وضع الشباب الجزائري خلال مرحلة مهمة من تاريخه المعاصر. ولعل كسْر التابوهات خلال هذه الرواية وجرأة الموضوع وطغيان التفاصيل هي ما جعلت من الرواية نسيجا لوحدها في خضم التجارب الروائية من الفترة ذاتها، فالرواية نشرت في الألفية الثالثة وعالجت مضامين من تسعينيات القرن الماضي، مما جعلها تتجاوز الزمن وتقدّم الحكاية بعد تجربة قريبة من الواقع المعاش". 
وعرض قريرة في الفصل السادس نصا "ينتمي إبداعيا للألفية الثالثة، وتعود أحداثه ومضامينه إلى التسعينيات من القرن الماضي أيضا، فترة ساد فيها العنف في كل شيء، إنها رواية "في الجبّة لا أحد" لزهرة ديك التي قدّمت متنها بشكل أكثر اختلافا مما يناسب مرحلة متقدّمة من السرد الجزائري، حيث يحضر البعْد الصوفي وتظهر الأزمة الوجوديّة التي عانى منها الجزائري في تلك الفترة، كما يبرز الفضاء كبيْت العنكبوت يوهم بالاحتماء لكنه فضاء من ورق لا يقوى أمام الرياح، فتصوّر الرواية اللحظات الأخيرة للجزائري قبل أن يقع ضحية العنف الذي لا ذنب له فيه إلا لأنه جزائري، فيحتمي ببيته الواهي أمام جحافل الإرهاب، فيظهر الفضاء في ظل زمن مضطرب، ويؤدي دورا محوريا وموّجها للحدث لكنه لا يقوم بذلك بشكل إيجابي ليحقق الخلاص، فلا يجرّع الشخصية إلا الوهم".

نقد أدبي
حمزة قريرة

وأكد قريرة أن مركزيّة الفضاء الروائي تكمن في قدرته على احتواء غيره من البنى وتوجيهها وطبْعها بطابعه الخاص، حتى يبدو كالمحور الذي تدور حوله أفلاك الرواية، ومن خلال العينات الروائية الجزائرية المدروسة، لاحظنا قوة الفضاء الروائي بمختلف أنماطه على السيطرة والتوجيه، حيث عمل على تشكيل ملامح خاصة بالرواية أو القصة في كل مرحلة، وفي ختام تتبّعنا لمركزيّته في مختلف العينات، وصلنا إلى مجموعة من النتائج تخص قدرته على التحكّم في مكوّنات السرد وتوجيهها منها:
ـ تتنوع أشكال الفضاء الروائي من الجغرافي/المكاني إلى النصي، والدلالي، والفضاء من حيث المنظور، وتعمل جميعها على تأطير الحدث كلّ حسب طبيعة بنائه وتشكيله.
ـ النص السردي الجزائري نص متحوّل حسب المرحلة التي ينتمي إليها، حيث تأثر بمختلف الأوضاع التي عايشها، وأخذ بملامح كل مرحلة ظهر فيها وعبّر عن خصائصها.
ـ انطلاقة السرد الجزائري الحديث كانت إصلاحية متأثرة بالأوضاع العامة التي مرّتْ بها الجزائر تلك الفترة، وجاء الفضاء بشكل عام ملائما للتوجه الإصلاحي، فلم يكن حضوره لدواعٍ فنية، بل جاء بنائيا لخدمة المضمون الإصلاحي، كما تميّز بالبساطة والسطحية تبعا لخصائص النص ذاته الذي لم يخرج عن دائرة الإصلاح والتوجيه، فهدفه توعوي أكثر منه فني.
ـ في مرحلة الثورة التحريرية وما تبعها بعد الاستقلال، تم تكريس البعْد الواقعي في الكتابة السردية وعملية التصوير، بما يتلاءم وطبيعة المرحلة الثورية، فتم تقديم بطولات الجزائريين إبان فترة الاحتلال، وكانت الواقعية في الطرح أفضل معبّر عن الحقيقة، فجاءت أغلب النصوص تقريرية، ونقلت حقيقة الواقع كما تجري أحداثه، لتُشابه بذلك التقرير الصحفي لكن بعاطفية أكبر، حيث لامست مشاعر الإنسان وصوّرت معاناة الجزائري بدقة.
ـ بدخول مرحلة السبعينيات واختيار النهج الاشتراكي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، تأثرت الحياة الثقافية بشكل عام بهذا التوجّه وكان للسرد نصيب من هذا التأثر، حيث أصبحت الأعمال السردية على اختلافها في خدمة القضايا الاشتراكية، فسيطر التعبير عن المضمون، ومن بين العينات التي قدّمناها لهذه المرحلة رواية الزلزال للطاهر وطار، التي مثّلتْ المرحلة أحسن تمثيل، فجاء عنف المضمون باديا عليها ومؤثرا في بنائها، وهنا يظهر الفضاء الروائي بمختلف أنماطه بلبوس التوجّه الاجتماعي/الاشتراكي، فالجغرافي مثلا جاء للتعبير عن تحوّل المدينة، وعلاقة الأرض بالإنسان، وكلها قضايا اشتراكية، كذلك اللغوي/الدلالي فقد جاء بسيطا بساطة اللغة الوظيفية، فلم تحتف بالمجاز ولم تولّد فضاءات دلالية لإضفاء قيم جمالية، واكتفت بتقديم مباشر يخدم الفكرة والمضمون، لكن رغم سيطرة المضمون وعنفه، فأن قيمة الفضاء الروائي خصوصا الجغرافي منه بدتْ واضحة ومحورية في السيطرة على بقية المكونات وتوجيهها، حيث دارت الرواية بمضمونها حول الفضاء الجغرافي (الأرض) بين الإقطاع الآيل إلى الزوال والقيم الاشتراكية التي بدأت تسيطر على الحياة بشكل عام.

رواية "في الجبة لا أحد" لزهرة ديك، صوّرت معاناة الجزائري فترة التسعينيات خوفا من القتل على يد الإرهاب

ـ في مرحلة الثمانينيات وبداية التسعينيات ظهرت بوادر جديدة في السرد الجزائري قادها عدد من رواد مرحلة السبعينيات وبعض الأسماء الجديدة، حيث بدأ خلال هذه المرحلة التخلّص التدريجي من عنف المضامين الاشتراكية، وذلك بسبب بداية إفلاس الاشتراكية سياسيا واقتصادية، وما تبعه من أزمات اجتماعية حادة، فانعكس كل ذلك على الحياة الثقافية، وبدأ الكثير من المثقفين يشعرون بعدم الجدوى من تتبع الشعارات الاشتراكية التي لم تحقق لهم شيئا في الواقع.
ـ مع فترة التسعينيات اتضحت الرؤية، وزادت الحاجة إلى التعدّد والتنوع الإبداعي السردي، وظهرت طرائق مبتكرة في السرد الروائي، تخلص الكثير منها من عنف المضمون نهائيا، وبدأت اللغة تسيطر على حركيّة السرد بشكل أكبر.
ـ في مرحلة لاحقة مع بدايات الألفية الثالثة اخترنا تجربة مختلفة تصوّر مرحلة التسعينيات رغم صدورها في الألفية الثالثة، إنها تجربة أمين الزاوي من خلال روايته "حادي التيوس". وجاء اختيار الرواية لعدة أسباب على رأسها تصويره لمرحلة مهمة من تاريخ الجزائر المعاصر، وهي مرحلة التسعينيات التي اختلط فيها كل شيء، من الإرهاب إلى التحوّل الاجتماعي، إلى تفاقم الهجرة وغيرها من القضايا التي مسّت المجتمع الجزائري، وقد جاءت الرواية لتصوّر شرائح اجتماعية مختلفة من الشباب الجزائري، من الإرهابي إلى تاجر المخدرات إلى الصحفي إلى الشاعر المنافق وغيرها من الشرائح التي ظهرت بشكل سلبي للغاية، ومن خلال البناء السردي ظهرت تقنيات أخرى أكثر اختلافا وتطوّرا في البناء، فأصبح للمشهد حضور مكثّف، كما تم كسر التابوهات، فقدّم الفضاء الروائي أقصى ما يمكنه للسيطرة على حركية الحدث وباقي المكونات السردية.
ـ من أجل تصوير عنف فترة التسعينيات اخترنا رواية أخرى لجيل جديد كتب بداية الألفية الثالثة، وجاء الاختيار من أجل التعرّف على نصوص كتبت من طرف كتّاب شباب عايشوا المرحلة، وانطلقت معهم حركة سردية أكثر اختلافا مع الألفية الثالثة، فجاء الاختيار على رواية "في الجبة لا أحد" لزهرة ديك، التي صوّرت معاناة الجزائري فترة التسعينيات خوفا من القتل على يد الإرهاب، ولم تأت الرواية لتصوّر قضايا مصيرية واجتماعية عامة كما في السابق، لكنها ركّزت على الإنسان الجزائري البسيط الذي لا يمثّل شيئا في المجتمع ولا يسمع به أحدا، ويعد هذا التصوير تطوّرا من حيث الحدث الروائي، فلم يعد هناك تقديس للشخصية البطلة المثالية والنموذجية التي عرفتها الرواية من قبل، بل أصبح البطل يمثّل الإنسان العادي البسيط الذي قد يكون الأكثر فشلا في حياته العامة والخاصة، ومن هنا تغيّر مفهوم البطل وموضعه، ونلاحظ في هذه الرواية المحاولات التجريبية في خلق تشكيلات خاصة بالمكونات السردية.