حملات تدمير الكتب ليست كلها شرا محضا

كتاب ربيكا كنوث "إبادة الكتب" يرصد تاريخ العلاقة بين تدهور المكتبات واضمحلال الحضارات.
عندما يُقدِمون على حرق الكتب، فسيؤول الأمر بهم أيضًا إلى حرق البشر أنفسهم
أول جريمة منظمة ضد الكتب ارتكبها الإسكندر الأكبر حين قام بحرق مكتبة برسيبولس، التي كانت تحوي عشرة آلاف مخطوطة
الإمبراطور الصيني تشين شي هوانج أقدم على إتلاف إرث الحضارة الصينية طوال الفترة السابقة على حكمه فدمر مائة ألف مخطوط

القاهرة ـ من أحمد رجب

عرف الإنسان الكتابة مع بداية ارتقائه حضاريا، فكان الكتاب دليلا على التحضر، وقد عرف السومريون والبابليون الكتاب الفخاري، وتوصل قدماء المصريين للكتاب الدرجي المصنوع من أعواد البردى، وهو الكتاب الذي أخذه عنهم الإغريق والرومان، ويواجه الكتاب منذ اكتشافه عداء شديدا من الحكام والكهنة، وتذكر المصادر التاريخية أن عام 335 ق. م، شهد أول جريمة منظمة ضد الكتب حين قام الإسكندر الأكبر بحرق مكتبة برسيبولس، التي كانت تحوي عشرة آلاف مخطوطة. 
وفي سنة 212 ق. م، أقدم الإمبراطور الصيني تشين شي هوانج على إتلاف إرث الحضارة الصينية طوال الفترة السابقة على حكمه فدمر مائة ألف مخطوط، وفي كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب" تقول المستشرقة زيجريد هونكه: "وهكذا حرقت يد التعصب مليوناً وخمسة آلاف من المجلدات، هي مجهود العرب في الأندلس وثمرة نهضتهم في ثمانية قرون".
إبادة الكتب
يرصد التاريخ العلاقة بين تدهور المكتبات واضمحلال الحضارات. فحرق الكتب وتدمير المخطوطات يمثل "انقطاعًا في سرد القصة سواء الفردية أو الجمعية، انقطاعًا في الزمن والعلاقات الإنسانية؛ وبالتالي إعاقة التشكُّل المستمر للكلِّ الذي يحمل معنى".
هذا ما تقوله ربيكا كنوث الأستاذة بجامعة هاواى، والمتخصصة في تاريخ الكتب والمكتبات، في كتابها الصادر مؤخرا ضمن سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية، بترجمة عاطف سيد عثمان وعنوانه "إبادة الكتب … تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين". 
وهي تبدأ كتابها بالتأكيد على أن "حملات تدمير الكتب بعيدة كل البعد عن أن تكون مجرد شر محض، فهي عمليات موجهة نحو هدف مرسوم وخطط مسوغة بعناية في إطار الصراعات التي تندلع بين رؤى متعارضة"، وترى الكاتبة كذلك أن إبادة الكتب ليست مجرد جريمة عفوية يرتكبها برابرة وظلاميون، بل هي وسيلة من وسائل حل المشكلات تتسم بأنها عمدية ومنهجية، توظِّف العنف لحرمان جماعة ما من حقوقها، لخدمة أيديولوجية متطرفة.

إصرار أيديولوجيات القرن العشرين على تدمير الكتب والمكتبات، "ليس هجومًا على الذات الفردية وحسب، بل على الثقافة كأساس لهوية جماعة ما

وترى ربيكا كنوث أن إصرار أيديولوجيات القرن العشرين على تدمير الكتب والمكتبات، "ليس هجومًا على الذات الفردية وحسب، بل على الثقافة كأساس لهوية جماعة ما. لطالما كانت الكتب هدفًا سهلًا للتدمير، سواء لأسباب طبيعية ككوارث ألمت بمكتبات، أو بيد الإنسان الذي حرق الكتب وقصف المكتبات عمدًا".
بعد ذلك ترصد ثلاثة أنماط للظروف المحيطة بتدمير المكتبات، أولها التدمير في إطار اجتياح المدن والقصور والمعابد أو أثناء المعارك ذاتها أو كثمن لخسارة الحرب، وثانيها نهب الكتب والوثائق بوصفها ممتلكات قيِّمة يستفيد منها الغازي والمنتصر ويُحرَم منها المهزومون، أما النمط الثالث فيرتبط بالرقابة والمصادرة والتطهير الثقافي في ظل أنظمة أيديولوجية سياسية متطرفة أو دينية. 
وتدمير الكتب ليس هجومًا على الذات الفردية وحسب، وإنما أيضًا على الثقافة كأساس لهوية جماعة ما. لذلك فالعنف الموجه ضد ثقافة محددة، هو عنف ظاهري غالبًا ما يغطي عنفًا سياسيًّا.
سياسات الإجرام
غالبا ما يوصف القرن العشرين بأنه القرن الأكثر دموية، إذ لم تكتفِ بعض الأنظمة السياسية باستهداف البشر بل استهدفت الثقافة كذلك من أجل محو هوية المهزوم، وقد استُحدثت مصطلحات جديدة لوصف هذه الجرائم: إبادة جماعية وإبادة اثنية. والحالات الخمس التي يدرسها الكتاب عبر خمسة فصول متتالية هي: ألمانيا النازية، صربيا الكبرى، العراق، الصين، التبت، تقدم دليلًا على وجود علاقة بين تدمير الكتب في القرن العشرين وجرائم الإبادة الجماعية والاثنية. 
في الفصل السادس "العراق والكويت وسياسات الإجرام"، تخلص إلى أن الكوارث تحدث ليس بسبب الأيديولوجيات ومقاصدها، وإنما "بسبب التطرف في تطبيقها بيد أصحاب السلطة المطلقة، ممن لا يتسامحون مع أي أصوات بديلة”.
وهي كذلك ترى أن "نهب شبكة المعلومات الكويتية أو تدميرها كان سياسة أساسية في الاستراتيجية المزدوجة الهادفة إلى الارتقاء بالعراق، ومحو الكويت باعتبارها أمة ذات سيادة"، وتُقدّم ربيكا كنوث إحصائيات موثّقة حول كميّة الكتب التي أُتلفت في المدارس والجامعات ثم المكتبات، فتذكر أن 34% من الكتب الموجودة بالمكتبات المدرسية تم تدميرها، كما ضاع أكثر من مليون كتاب من الكتب التعليمية أو الموجهه للطفل. كما تشرح بالتفصيل كيف حدث ذلك. 

فروق جوهرية
المستقبل اليوتوبي المنتظر

وتتساءل المؤلفة عن الأسباب التي تدفع بلدا عربيا لغزو بلد عربي مجاور له نفس اللغة والهوية، فتتحدث عما تسميه "التفكك وصعود البعثية لكنها، وهي تسرد تاريخ حزب “البعث”، تتناول فكرة الوحدة العربية، فتقول "كان وقود الوحدة العربية أسطورة تفسيرية عظيمة الأثر فحواها أن الأجنبي عدو. استندت الأسطورة إلى الفرضية التي تذهب إلى أن الأجانب سبّبوا انحطاطاً ثقافياً وفرقة بين العرب، عن طريق إبقاء الشعب العربي ضعيفاً. وصار يُنظَر إلى الفقر المعاصر باعتباره ناجماً عن مكائد ينسجها الأجانب، وجرى التخفيف من حدة الخسارة المعنوية التي سبّبتها الهزائم العسكرية المعاصرة للعرب".
هكذا وببساطة تدل على خطأ فهم ربيكا كنوث لجذور الصراع العربي الغربي، فتتجاهل حقبا طويلة من التاريخ الملىء بالصراع بين الغرب والمنطقة العربية، حيث استطاع الغرب القوي احتلال أراضي الشعوب العربية التي أنهكها حكم تركي غشوم دام لستة قرون، فاستنزفت دول الاستعمار الغربي خيرات العرب، ولا تزال تسعي للسيطرة عليها بأشكال مختلفة، لكن المؤلفة تتجاهل ذلك وترده إلى إيمان العرب بعقيدة كبش الفداء ونظرية المؤامرة، فتختصر الأمر كله في دافع نفسي يستهدف تبرئة الذات من أسباب الهزيمة، وتنهي الفصل بل الكتاب كله دون أن تتناول عمليات التدمير والنهب المنظمين والممنهجين لمكتبات وآثار العراق خلال فترة الاحتلال الأميركي له، فربما يرجع السبب لكون الطبعة الأصلية من الكتاب صدرت في مطلع القرن.
صدام الأفكار
يرصد آخر فصول الكتاب الفروق الجوهرية بين مناصري الأيديولوجيات المتطرفة وذوي النزعة الإنسية، ففي حين يعمد الفريق الأول إلى نبذ المعرفة الموروثة حتى يتمكن من النظر إلى المستقبل اليوتوبي المنتظر، فيمارسون تسييسا للثقافة أو ينقلبون عليها، بينما يسعى ذوو النزعة الإنسية إلى البحث عن الإلهام والتجديد باستيعاب الموروث. فهم يرون في المواد المكتوبة وسيلة لاستمرار الثقافة والتقدم، ويؤمنون بمقولة الشاعر الألماني هاينريش هاينه "عندما يُقدِمون على حرق الكتب، فسيؤول الأمر بهم أيضًا إلى حرق البشر أنفسهم". (وكالة الصحافة العربية)