حول طبيعة الدَّولة الإسلامية

جماعات الإسلام السياسي لن تستطيع تجاوز مأزقها الفكري دون الاعتراف بالدولة الديمقراطية الحديثة.

بقلم: بابكر فيصل

سُئل القيادي البارز في جماعة الإخوان المسلمين بالسودان الدكتور عصام أحمد البشير في حوار صحفي عن طبيعة الدولة في الإسلام، هل هي دينية أم مدنية؟ فأجاب بالقول: "الدولة في الإسلام مدنية ذات مرجعية إسلامية كما يقول شيخنا العلامة يوسف القرضاوي فالدولة التي جاء بها الإسلام عرفها تاريخ المسلمين دولة مدنية، تقوم السلطة فيها على البيعة والاختيار والشورى والحاكم فيها وكيل عن الأمة أو أجير لها، ومن حق الأمة أن تحاسبه وتراقبه وتأمره وتنهاه، وتقوِّمه إن اعوَّج وإلا عزلته".

على الرغم من حديث الدكتور عصام عن مدنية الدولة وطبيعة نظام الحكم فيها إلا أن ذلك لا يُعبَّر بالضرورة عن التجربة التاريخية الإسلامية أو عن أفكار مُختلف تيارات الإسلام السياسي. أهل الإسلام السياسي ـ على سبيل المثال ـ لم يحسموا أمر نظام الحكم ووسائله.

الشورى ـ هل هي ملزمة أم غير ملزمة؟ الديمقراطية هل هي كفر صراح كما يقول حزب التحرير؟ أم تتضمن معنى كفري كما يقول بعض شيوخ السلف؟ أم أنها تتضمن روح الإسلام كما يقول الشيخ القرضاوي؟ وما هو البديل المحدد والمُفصَّل الذي يُقدمونه حتى يُقنعوا به الشعوب الإسلامية؟

هم كذلك لم يحسموا أمر اختيار الحاكم والشروط التي يجب أن تتوفر فيه. بأي أسلوب من الأساليب التي اتبَّعها الراشدون؟ أسلوب السقيفة الذي تم به اختيار أبوبكر الصديق؟ أم التولية بتوصية من الخليفة السابق كما حدث عند تولية عمر بن الخطاب؟ أم انتقاء مجموعة يوكل لها أمر الاختيار كما حدث في تحديد الستة الذين اختارهم عمر؟ أم ببيعة بعض الأمصار ورفض البعض الآخر كما حدث في خلافة الإمام علي؟ أم على طريقة الأمويين والعباسيين وكل من جاء بعدهم "الغلبة والوراثة"؟ وهل يجب أن يكون الحاكم قرشيا؟ وهل يقبل السلفيون وحزب التحرير (ولو نظريا) ـ على سبيل المثال ـ بأن يكون رئيس الدولة غير مسلم؟

عندما يقول الدكتور عصام إن الحاكم أجير عند الأمة وهي تحاسبه وتراقبه، فهو قول إن صدق في حُكم الراشدين الذي لم يتجاوز الثلاثين عاما، فإنه لا يصدق في كل القرون اللاحقة. الخلفاء ما كانوا يحتملون الاختلاف أو المُناصحة أو الانتقاد، وكان سلاحهم في مواجهتها هو الإقصاء والتعذيب والقتل والسجن!

ترى من ذا الذي قصف عبد الله بن الزبير بالمنجنيق واستباح مدينة الرسول ثلاثة أيام نهبا للأموال وحرقا للبيوت وهتكا للأعراض؟ من الذي مزَّق جسد سبط الرسول وآل بيته في كربلاء؟ من الذي ذبح الجعد بن درهم داخل المسجد؟ من الذي فصل رأس سيد التابعين سعيد بن جبير عن جسده؟ من الذي جلد مالك، وعذّب ابن حنبل، وسجن أبا حنيفة، وروَّع الشافعي، وصلبَ الحلاج، وقطَّع أوصال ابن المقفع، وأحْرَقَ السهروردي؟

الحقيقة الوحيدة المؤكدة هي أنه عدا شذرات مُشرقة في خلافة الراشدين، وخلافة عمر بن عبد العزيز، وخلافة المهتدي العباسي، فقد حملت الدولة الإسلامية ملامح الحكم في العصور الوسطى، وهو حكم كان الاستبداد هو المُرَّجح فيه، وكان شخص الحاكم هو الذي يُحدد طبيعة الحكم، حيث لا توجد كوابح خارجية (دستور وقوانين) تحدد سلطات الحاكم وتُفصِّل صلاحياته.

يدعي الدكتور عصام أن الأمة تحاسب الحاكم وتعزله، وهذا الادعاء افتراضي لا وجود له في التاريخ الإسلامي. فمن هو الحاكم الذي حاسبته الأمة وعزلته طوال تاريخها؟ فخلفاء بني أمية وعددهم أربعة عشر خليفة بدءا بمعاوية بن أبي سفيان وانتهاء بمروان بن الحكم ماتوا إما مقتولين أو على فراش المرض، وخلفاء بني العباس وعددهم اثنان وعشرون بدءا بأبي العباس السفاح (لاحظ الاسم)، وانتهاءً بالمستكفي ماتوا بذات الطريقة، وعلى ذات النهج انتهى كل الحكام والخلفاء حتى عام 1924 وهو تاريخ انتهاء الخلافة العثمانية.

الخطورة في الخلط بين الإسلام وبين ما يُسمى الدولة الإسلامية، هو أنه ليس هناك معيارا موضوعيا يُمكن الاحتكام إليه في قياس مدى تطابق مبادئ وأسس الإسلام مع تلك الدولة وذلك بسبب أن الأخيرة تعبير ذاتي عن فهم وتفسير كل فئة أو جماعة لماهية الإسلام، وهو بالضرورة ليس فهما متطابقا مع الإسلام كما عبَّر عنه القرآن، ذلك لأن القرآن "حمَّال أوجه" وهو لا ينطق إنما ينطق به الرجال كما يقول علي بن أبي طالب.

على سبيل المثال، يعتبر أنصار نظرية ولاية الفقيه أنها تُعبِّر عن الدولة الإسلامية الحقيقية بينما توجد فئات شيعية كثيرة، من بينها مراجع دينية كبيرة تعتبر أنه لا يوجد شيئ يُسمى الدولة الإسلامية وأن ما يحدث في إيران بدعة لا صلة لها بالإسلام.

كذلك قال الدكتور عصام في الحوار المذكور إن الإسلام "راعى حقوق الأقليات غير المسلمة وجعل حفظها دينا يتقرَّب به أخوه المسلم من بني الوطن وهذا يدعونا إلى دعوة غير المسلمين إلى إدراك حقائق الأشياء والتي منها حق الأغلبية في التحاكم لدينها. الدولة الإسلامية تأخذ بقاعدة المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلم وغير المسلم إلا ما كان مبنيا على قاعدة دينية".

لا بد من تناول علاقة الإسلام بالأقليات في سياقها التاريخي الصحيح. ذلك أن تاريخ الإسلام مقارنة بالتاريخ الأوروبي على سبيل المثال كان متقدما من حيث مراعاة حقوق الأقليات، وعلى وجه الخصوص الأقلية اليهودية. ولكن ذلك كان بمقاييس العصور الوسطى وما بعدها. أما اليوم ومع ظهور الدولة القومية الحديثة وتغيُّر المعايير وظهور مفهوم المواطنة كأساس للحقوق والواجبات فإن هناك إشكاليات حقيقية في الاحتكام للدين كأساس لعلاقة المواطن مع الدولة.

هناك العديد من التيارات الإسلامية التي ما تزال تنادي بإعمال فقه جهاد الطلب مع الأقليات. ووفقا لهذا الفقه فإن الآخر المختلف أمامه خيارات ثلاث: الإسلام أو دفع الجزية أو القتال. وفي مصر قال مرشد الإخوان المسلمين الأسبق، مصطفى مشهور، إنه لا يحق للأقباط العمل بالجيش لأن ولاءهم غير مضمون، وأنهم يجب أن يدفعوا الجزية، كما أنه لا يحق لهم الترشح لرئاسة الجمهورية. كما أن هناك تيارات إسلامية عديدة ترى أنه ليس لغير المسلم الحق في تولي المناصب التي يكون له فيها ولاية على المسلمين، وأن ليس من حقه تولي القضاء.

إن المناداة بالاحتكام للدين في علاقة المواطن بالدولة تثير العديد من التساؤلات المشروعة: لماذا ترفض الحركات الإسلامية دعوة إسرائيل ليهودية الدولة؟ وهل للأغلبية الحق في الاحتكام لدينها وشريعتها في المجتمعات التي يكون فيها المسلمون أقلية؟ ولماذا يقاوم المسلمون في الهند محاولات المتطرفين الهندوس تديين السياسة، ويدعون لعلمانية الدولة ويحتمون بحزب المؤتمر الهندي الذي يرفع لواءها؟

المرجعية المدنية لا تعني أن الدولة تحارِب الإسلام وتعاديه وتعزله عن المجتمع والحياة أو لا تهتدي بقيمه الأساسية، ولكنها تعني اعتماد الدستور والقوانين كضمان لعدم انحراف الحكم، وهذا هو الوضع الذي يسود في أحد أكثر النماذج نجاحا للبلدان الإسلامية في عصرنا هذا "ماليزيا". فعلى الرغم من أن المسلمين الملايو يشكلون أغلبية إلا أنهم لم يقولوا لأصحاب الديانات الهندوسية والبوذية والمسيحية عليكم أن تتفهموا حقنا في الاحتكام إلى الإسلام، ولكنهم تواضعوا معهم على دستور مدني يُحافظ على حقوقهم جميعا.

لن تستطيع جماعات الإسلام السياسي تجاوز مأزقها الفكري دون الاعتراف بالدولة الديمقراطية الحديثة التي تعتبر الشعب مصدر السلطات، وتنبني فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة التي تساوي بين جميع مواطنيها بغض النظر عن دينهم أو جنسهم فضلا عن تطبيقها القوانين المدنية وليس الدينية.

كاتب سوداني