حيوية اللغة ومكابدات الذات الشعرية

عاطف عبدالمجيد يصدّر لنا مجموعة من الرموز والاٍشارات تمثلها المفردات التي يتكوّن منها ديوانه "من طينة أخرى دمي".
العناصر البنائية للمشهد الشعري تتوالد وتتناسل من بعضها البعض
الشاعر يستمد العناصر البنائية المكونة لمشاهده الشعرية من واقعه الحياتي  المعيش

"من طينة أخرى دمي" هو الديوان السادس للشاعر والمترجم المبدع عاطف محمد عبدالمجيد، وقد صدر عن سلسلة الاٍبداع الشعرى المعاصر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. 
بداية من عنوان الديوان الذي يمثّل العتبة الأولى والمدخل الذي يعبر منه القارئ  لأجواء العالم الشعري للديوان، حيث يقوم ـ العنوان ـ بوظائف التعيين والاٍغواء والوصف والاٍيحاء يصدّر لنا الشاعر عاطف عبدالمجيد مجموعة من الرموز والاٍشارات  تمثلها المفردات التي يتكوّن منها هذا االعنوان، وهي الطين والدم والذات التي تؤكد لنا منذ الوهلة الأولى على اختلافها عن الذوات الأخرى من حيث تكوينها وتشكُّلها من طينة مغايرة.
واٍلى جانب ما يشي به العنوان من رموز تتنامى وتمارس تحوّلاتها داخل قصائد الديوان، فاٍن مجئ العنوان في هيئة صورة تمثيلية يتشكل ويولد طرفها الثاني من الطرف الأول يشي بأن الشاعر مولع بتشكيل مشاهده الشعرية عبر تلك التقنية في التصوير، حيث تتوالد وتتناسل العناصر البنائية للمشهد الشعري من بعضها البعض، ويستمد الشاعر العناصر البنائية المكونة لمشاهده الشعرية من واقعه الحياتي  المعيش، بما يمثله من أرض وطين وبيئة خاصة وزمن يعيش فيها الشاعر ويمارس طقوسه اليومية، ويعطى ذلك خصوصية لتلك المشاهد الشعرية التي يسري فى ثناياها نبض الشاعر وبصمة صوته. 
ويبني الشاعر عاطف عبدالمجيد نصوصه ومشاهده الشعريه بلغة تميل اٍلى البساطة ولكنها محمّلة بالدلالات التي تعبر عن مكابدات الذات في مواجهة العالم، حيث يقول الشاعر في  قصيدة "أنا" :
والفرحة عندى 
لا تختلف كثيراً
عند صدمةِ أبوين بفقْد جنينْ
 ويحتوي المعجم الشعري لديوان "من طينة أخرى دمي" على مفردات ورموز من الموروث الديني والتاريخي والأسطوري، وبعض المفردات العامية ومجازات الشارع والأمثال الشعبية التي  قام الشاعر باٍعرابها وتوظيفها في قصائده بحيث لا تبدو هذه المفردات والتراكيب غير متسقة بأي شكل من الأشكال مع النسيج اللغوي للنصّ الشعري، بل أنها أضفت بعدا جماليا يحسب للشاعر عاطف عبدالمجيد يتمثل في صهر مفرادت وتراكيب اللغة  التي أتى بها من منابع متعددة في بوتقة واحدة بأسلوبه الفني، ليعبر بها عن مكابداته الذاتية في نصوصه ومشاهده الشعرية سواء كانت  هذه المشاهد تعتمد فى تشكيلها على المجازات والاٍستعارات والتشبيهات كما في قصيدة "لكن" حيث يتماس الشاعر مع المثل الشعبي "زى السمك ما بيعيشّ غير فى الميّه" حيث يقول:
لا عيش لهذي الأسماكِ .. سوى في الماء
أحسنت ولكن 
هل ترضى الأسماكُ ..
بعيشِ
اٍنْ .. فسد الماء؟! 
وفي قصيدة "سعير أبدي" يلّون الشاعر مشهده الشعري المجازي الذي يصوّر فيه بشاعة القتل بظلال تراثية عبر استخدامه لمفردات ذات مسحة أسطورية "لملمة الأشلاء بعد تقطيع الجسد  ونثرها  في اليم"، ومفردات من الموروث الديني "جنتك العظمى" و"سعير أبدي" حيث يقول: 
أشعل نيرانك في جسدي
لملم أشلائي
وانثرها في اليم 
تأكد من ذوباني في المجهول
تخيل أنك قد تهنأ بحياتك من بعدي
لكني لن أنركك وحيدا
تستمع في أمدي 
بل سأجيئك كل رقاد
في هيئة كابوس
يجعل جنتك العظمى
كسعير أبدي 
وفى قصيدة "عذابات شتى" يقول الشاعر في مشهد يقوم على المجاز وتناسل الصور الجزئية من بعضها البعض، حيث تتفافز الصور الواحدة تلو الأخرى برشاقة وتشتبك ببعضها البعض:
تجتث سروري
من جسدي
ثم..
وراء جدار شقاء
تلقيني
وهناك تمسمرني
بعذابات شتى
فبربك لا تسألني
عمّا يبكيني
بل فاسأل شخصك
كيف تصفق أيدي
الموتى؟!

Poetry
أرزاق يا ولدي

وبالاٍضافة اٍلى الصور المجازية، كما أشرت سابقا، فاٍن الشاعر عاطف عبدالمجيد يعتمد أيضا في بناء مشاهده الشعرية على الصورة السردية التي تقوم على حكائية السرد عبر تدافع الجمل الفعلية السردية التي تجسّد حالات وتحولات الذات وعلاقتها بهذا العالم، ويعتمد الشاعر عاطف عبدالمجيد على استخدام الصورة السردية بشكل أكبر اٍلى حد ما من نظيرتها المجازية والوصفية في تشكيل رؤياه الشعرية للذات، والعالم، والأب / التاريخ، والابن / الحلم، كما في المقطع السادس من قصيدة "قصائد" حيث يقول الشاعر:
الأوسط من أبنائي
ذو السبعة أعوام يحلم بالقيلا
بالشاليه الصيفي 
وبالفور باي "فار"
ثم يقول الشاعر عن  حلمه الذاتي:
أحلم .. وبأية مينى
يتكون من جدران أربع 
أسترخى فيه بلا خوف
من مالك بيتِ
أتعثّر في جثّته حين صعودي 
فالشاعر عاطف عبدالمجيد في ديوان "من طينة أخرى دمي" راوٍ ذاتي يستخدم ضمير المتكلّم في غالبية القصائد ويوجه خطابه للمروي له الذي قد يكون شخصية محدّدة آدمية كالأب والأم، أو غير محددة نتعرف عليها مخاطبة الشاعر لها، وأحيانا يكون المروي له هو ذات الشاعر  كما فى قصيدة  "قف" حيث يقول: 
قف
لا تتحرك قط
كي لا تصدم
بسور
أو تسقط كغريق
في الماء
نحن هنا
في الصحراء .. ! 
وأحيانا يعتمد الشاعر على  تقنية الحوار في بناء المشهد الشعري عبر استحضار صوت الشخصية التي يخاطبها، فيزاوج بين الصورة السردية والصورة الحوارية في مقاطع القصيدة، كما في المقطع الثالث عشر من قصيدة  "قصائد" حيث يقول الشاعر:
 ـ كم وجها تمتلك الأن
: أتريد جوابا بالتحديد
ـ ليتك تفعل .. اثنان؟
: أصدقك القول وربي 
لا أدري كم 
من كثرة أقنعتي 
و ..
وما استحدث من ألوان!
ويعمل الشاعر عاطف عبدالمجيد على تحريك وتوسيع مدار الصورة السردية في  فضاء الشعر عبر المفارقات التي تدفع بالمشهد الشعري في اتجاه التنامي الدرامي عبر تمثيل فكرة الصراع بين المتضادات أو المتناقضات والاأسئلة التي يحدد فيها الشاعر موقفه من العالم والحياة والموت بل وموقفه من الأب / التاريخ كما في قصيدة "أبتي والاابن الثوري الثائر" حيث يقول:
أحيانا 
أتساءل مندهشا
عن صلة تربطني  وأبي
غير مَنِّي 
كان قد اخترق بويضة أمي
لقّحها
ثم انبثق جنينْ
أتساءل فيرد الهاتف
أرزاق يا ولدي
والباقي لا علم لنا بالغيب
ولا نملك أي يقينْ!