خرافة تربط الواقع بالماضي والمستقبل في "أحلام وغيلان"

رواية الكاتب الفلسطيني محمد حسين سماعنة تصوغ رؤية فانتازية للواقع العربي مع فسحة صغيرة للأمل بعيدا عن التواكل على الأحلام فقط.
هموم المرأة الشرقية تحضر في الرواية
السماعنة يريد أن تكون رموز روايته غاية في الوضوح
على شاكلة كليلة ودمنة، الرمز التراثي السحري يأخذ مكانة في "أحلام وغيلان"

الظهران - من جواد يونس
نجح الكاتب الفلسطيني محمد حسين سماعنة في إثارة اهتمامي بمعرفة خاتمة روايته "أحلام وغيلان" لا كحدث، بل كرؤية للكاتب حول ما ستؤول إليه حال أمتنا التي تصفها الرواية بشكل غير مباشر.
قد يؤخذ على الرواية أن الرموز كانت في غاية الوضوح، ولكن ربما كان هذا ما أراده الكاتب مع سبق الإصرار والترصد، مع ضرورة التسليم بأن للقراءة عدة روايات وإسقاطات مشروعة.
 هذه رواية مختلفة عن كل ما قرأته من روايات، تختلط فيها الفانتازيا والخرافة بالواقع، فتصور حال الناس في المنطقة رقم 10 حيث غرق الناس في عالم الأحلام بحيث أصبحوا متواكلين عليها في تحسين معيشتهم، وحيث تسن "لجنة الأحلام والتفسير" ما شاءت من القوانين لتدجين الأحلام، وتفرض ما شاءت من الرسوم والضرائب على من يريد تفسير حلمه عند "أم مطر" التي لا تخيب تأويلاتها أبدا.
لا أدري إن كان هذا مقصودا أم لا، ولكن الرواية تذكر 6 أشهر هي بالترتيب: شهر اللوز - شهر الموز - شهر الفول - شهر الفلفل - شهر تموز - شهر المفتاح، وتذكرنا بالأشهر الستة التي تدور فيها أحداث الأجزاء الثلاثة من رواية  "1Q84" للروائي الياباني هاروكي موراكامي الذي يقتبس الكاتب قوله "الحل هو الأحلام" (ص 90). 

لغة الرواية سلسة تتدفق كنهر جار، لا صنعة فيها، وفي بعض المقاطع تصبح لغة شعرية حيث مقاطع من شعر التفعيلة على البحر الكامل

و"كيو" لها نفس لفظ الرقم "9" باللغة اليابانية، بينما هو اختصار لـسؤال "Question" بالإنكليزية. في العنوان إشارة واضحة إلى رواية (1984: جورج أوريل) وإشارة خفية إلى العالم الغامض الذي يعيش فيه ابطال الرواية، في المقابل يوجد في المنطقة 10 قلة تتمرد على الواقع، ومنهم "شام" التي لها فلسفة خاصة بالأحلام، فتقول في ص 11: "قلت لها بأني لا أخاف على روحي ونفسي؛ فأنا أعد الحلم جزءا من الحياة لا الحياة، وهم يعدون الحياة حلما فيبنون حياتهم على أحلام، ويهجعون بانتظار أن تتحقق لهم" (ما أصدق هذا الوصف لحال أمتنا)، ثم تقول في ص 33: ردا على سؤال: "أليس الحلم من الحياة؟" قائلة: "بلى، ولكنه يغدو عدوها إن صار مادتها".
 ومنهم أحمد الطائر (يصبح اسمه حميدان الطائر لاحقا!) الذي يقول في ص 21: "قالوا له: يا أحمد، الحلم أساس الحياة، فقال: الحلم طرح ونتاج لا هدف نرسمه، يأتي عرضا ولا يأتي عنوة، يأتي حرا طريا رطبا عائما غائما لنتذوقه لا لنعلقه كالوحوش، فهو ليس ذبيحة، خاب من يقتات بالحلم، يا أيها الناس إن الحياة والتعب هما الحل".
 يبلغ السفه بمن يديرون المنطقة 10 أن يكذبوا الكذبة ثم يصدقونها، فنجدهم يحاربون خطر أحمد/حميدان الطائر بقرار فريد: "واتفقوا على أن يحلموا أنه راحل عن المنطقة 10" (ص 31).

الرواية الفلسطينية
أليس الحلم من الحياة!

 تتطرق الرواية إلى هموم المرأة الشرقية، فهي تدور في "عام الذكورة" في إشارة واضحة إلى المجتمع الذكوري الذي نعيش فيه. وفي بعض قرارات (لجنة الأحلام والتفسير) منعت النساء من تفسير أحلامهن عند "أم مطر" بينما سمح للذكور بذلك.
 كما أن هناك إشارة عديدة إلى الذكاء الأنثوي الذي كان ضروري لصد اعتداء الغول بعد أن فشلت قوة الذكور في ذلك.
على شاكلة "كليلة ودمنة" تحدث أم مطر "شام" عن قصص الغولة الأكولة وأبو رجل مسلوخة وغيرهما، واللافت هنا المفعول السحري لحبات الزيتون التي لا تستطيع الغول مقاومتها، بل إن للزيتون وحده قدرة عجيبة في "مقاومة" الغول (كما فعلت أحلام)، وفي "القضاء" على الغول عبر معجون الزيتون والتمر (كما فعلت لجين). هل هنا إشارة إلى اتحاد دول الشام/فلسطين (حيث الزيتون) مع العراق وربما الخليج (حيث التمر) للقضاء على الغول الصهيوني/الإمبريالي!
 ربَّما كان ذلك ما يرمي إليه الكاتب، وعلى كل حال فالنص مفتوح على قراءات عديدة.
 هناك أيضا إشارة إلى التين الذي يخيف "أبو رجل مسلوخة". التين والزيتون والتمر: هل هي الشام/فلسطين والعراق/الخليج؟ ربما. الخاتمة: تختفي مفسرة الأحلام أم مطر، ورغم ذلك يستمر الناس في التواكل على الأحلام (أي أن للكاتب نظرية تشاؤمية لواقعنا وإمكانية الانتقال في المستقبل القريب من عالم الأحلام إلى عالم التخطيط والأفعال).
فهل اختفت أم مطر أم أنها عالقة في حلم استعصى على التفسير؟ أم تجسدت في تفصيلات حلم أحبته فأعادت تصميمه وتشكيله لتنعم فيه بالراحة والسكينة؟ فمع أن أم مطر مفقودة منذ سنة أو أكثر إلا أن صفوف الحالمين ما زالت تملأ الشوارع القريبة من بيتها والساحات الثلاثة.
هناك تناص مع قصة فرعون/موسى حيث فسر الثعبان حلم الأسد: "سيهجم عليك سبعون طفلا رضيعا، وعشرون امرأة، ومئة شيخ بعصي من ياسمين إن قتلتهم نجوت." وهنا مفارقة عندما رفض الأرنب تفسير حلم الأسد قائلا إن هذا الحلم من أحلام "الإنس" ولا يفسره إلا "الثعبان" في إشارة إلى إجرام الإنسان واستعداده للاستماع إلى إغواء إبليس الذي تشكل في شكل حية حينما وسوس لحوّاء في الجنة (بحسب مزاعم التوراة)! لاحظوا أن تفسير الثعبان لحلم الأسد يذكر أن العصي من "ياسمين" فهل يشير الكاتب إلى ياسمين الشام؟ ربَّما!
وربما كان هذا يغني عن تصريح الكاتب بأنهم "قادمون من أطراف الشام، ومن إدلب وحمص وحماة، ومن نابلس ومن جبال لبنان ومن معان"، بعض العبارات تتناص مع القرآن الكريم" أنا أبني حلما قد تكاملت فصوله عن حي عائم في البحر أشجاره عالية، لا تسمع فيه لاغية" (ص 19)، فيه تناص مع قوله (تعالى): " فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ. لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (الغاشية: 11/12) - "وإن تركتهم يصلون عرينك أخذوك بالنواصي والأقدام" (ص 91) تناص مع قوله تعالى: "يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ" (الرحمن: 41).

هناك إشارة عديدة إلى الذكاء الأنثوي الذي كان ضروريا لصد اعتداء الغول بعد أن فشلت قوة الذكور في ذلك

لغة الرواية سلسة تتدفق كنهر جار، لا صنعة فيها، وفي بعض المقاطع تصبح لغة شعرية حيث مقاطع من شعر التفعيلة على البحر الكامل، ص 34 "علب من الشوق المعصفر بالخدوشْ قلق الغريب على المقاعد عند نافذة القطارْ سيلٌ من الخوف العميقِ يحوسنا وبلا رتوشْ صوت يخرخش تحت أرصفة الحوارِ بين ألسنة الخضوعْ جسد تلاقفه الوحوشْ تهمي على الخد المقدد دمعتانْ" ، و"سنة تلاحق أختها والطفل كانْ، مرت عليه الذكرياتْ، ألقت أساورها الثقيلة والعيونْ شقت يديه إلى الظنونْ، فاختار نافذة البطولة كي يعود إلى الأمانْ" ص 89.
ولو كنت مكان الكاتب لكتبت هذه المقاطع على شكل شعر تفعيلة بدلا من المزج بين الشكلين الشعري والنثري، ويبدو لي أن الكاتب اختار وانتقى أسماء/كنى شخصياته بشكل دقيق ولن أسهب في شرحها فدلالاتها واضحة، مفسرة الأحلام: أم مطر، ابنها مطر: مجند في الصحراء يرسل الرسائل إلى أمه ولكنه لم يعد، مطر الذي ظن أن القادة اختاروا زملاءه لمحاربة العدو فثارت ثائرته وقال: "يعني بحرق المعسكر، يعني بقتل حالي، يعني بدمر الدنيا، أنا لازم أروح معهم ليش أنا مش معهم ليش، ناقصني رجل ولّا إيد؟" صعق بعد أن ضُمَّ إلى زملائه وأخبروا بأن مهمتهم ليست مهاجمة العدو بل، خاطبهم القائد: "أنتم الشجعان الذين اخترناهم للقبض على الحصان الهارب والحمارين اللذين تسللا إلى ملعب المدينة وأكلا العشب".
 يبدو أن الكاتب أراد أن يوصل رسالة مفادها أن الخطر الحقيقي على الأمة لا يتمثل فقط في الغيلان التي تغتال البشر والشجر والحجر وربما كان بالإمكان حبسها كما فعلت أحلام، أو القضاء عليها كما فعلت لجين، بل في الحكم الدكتاتوري الذي لم يغتل هذه المرة الأحلام كما يتهم كل حاكم دكتاتوري عادة بل اغتال الإرادة عبر إغراق الناس في الأحلام وهذه هي المفارقة التي تميز الرواية عما سواها من أعمال سابقة.